12 سبتمبر 2025
تسجيلفي الوقت الذي تناقش فيه فعالياتٌ على مستوى عالٍ في دولة الكويت موضوع الشهادات المزوَرة، وتكليف مجلس الأمة الكويتي لجنةً للتحقيق في الشهادات المزوَرة وغيرِ المُعترف بها ، تنتشر هذه الأيام – عبر وسائل التواصل الاجتماعي – إعلاناتٌ حول منح شهادات علمية، وفي تخصصات عديدة، عن طريق المراسلة أو الإنترنت. وللأسف، تربط هذه الإعلانات مشاريعها التجارية بأسماء السفارة في بعض الدول الأوروبية، بل وتضع اسم دولة قطر على تلك الإعلانات. وهذا أسلوب غير دقيق للعملية التعليمية، ونحن بعد خبرة تزيد على الثلاثين عاماً في مجال التدريس الجامعي، ندرك الصعوبات التي تواجه الطلبة والطالبات في المرحلة الجامعية، مع كل الإرشادات والتكليفات والامتحانات، ناهيك عن أن بعض التخصصات التي تطرحها تلك الإعلانات – مثل الهندسة - تحتاج إلى تطبيقات عملية لا تتوافر عبر المراسلة، أي Field work. كما أننا ندرك بعض الوسائل المخالفة للقوانين الأكاديمية التي يقوم بها بعض الطلبة والطالبات، وهم تحت الرقابة الصارمة في الامتحانات، فكيف سيكون عليه الأمر عند الإجابة على الأسئلة في حال الدراسة عبر المراسلة أو الإنترنت؟! ونحن أيضا نعاني من عدم قدرة العديد من الطلبة على كتابة البحوث التي لا تزيد على 5 آلاف كلمة، وتتم الاستعانة ببعض المكتبات التي توفر تلك الأوراق لقاء مبالغ محددة. وعندما يطلب المدرس من الطالب شرحَ ورقته، لا يستطيع هذا الأخير تفسير سطر من سطور البحث - الذي قد تصل صفحاته إلى عشرين صفحة - وبذلك نكتشف أن الطالب لم يكن هو مَن قام بعمل البحث! والغريب أن بعض تلك الإعلانات تزجُّ اسم السفارة في تلك الإعلانات، ولا نعلم كيف يمكن أن تزجَّ تلك الإعلانات اسم السفارة في إعلاناتها، ونحن ندرك أن وزارة التعليم هي التي تقرر لوائح الجامعات والمعاهد المعترف بها للابتعاث. إن القضية بالغة الأهمية، ويستوجب الأمر إجراءان: الأول – بيان من وزارة التعليم والتعليم العالي، نظرا لوجود اسم دولة قطر في تلك الإعلانات. الثاني – موقف إدارة الجرائم الإلكترونية بوزارة الداخلية من نشر مثل تلك الإعلانات في وسائل التواصل وعليها اسم دولة قطر! أعتقد أن المُتاجرة بالعلم والضمير تجارة غير رابحة ولا تتماشى مع سعي الدول نحو التعليم الراقي، وبناء الإنسان القادر على التعامل مع مخرجات العصر، كما أن التعليم عن بُعد أو عبر الإنترنت لا تتوافر فيه الأمانة ، وفيه محاذير عدة، لعل أهمها: 1- عدم إحاطة الطالب بالبيئة الأكاديمية، وعدم تعَرّفه على الضوابط الأكاديمية والشروط العلمية، التي تضمن حصوله على المعلومات في تخصصه. 2- غياب الحوار المباشر بين الطالب وأستاذه وبينه وبين الطلبة، ما يمكن أن يُشكل زاداً مهماً في تنمية قدرات الطالب، وتوسيع مداركه، ليس في المادة فحسب، بل في أمور الحياة كلها. 3- في أجوبة الامتحانات أو التطبيقات، كيف يضمن المعهد أن تلك الأجوبة أو التطبيقات من عمل الطالب نفسه؟ ألا يُمكن للطالب أن يستعين بآخرين يقومون بالإجابة نيابة عنه؟ 4- إن شخصية المدرس أو المدرسين لها دور كبير في نمو وتطور شخصية الطالب، والدراسة عن بُعد أو عبر الإنترنت، لا يحدث فيها ذاك التفاعل مع المدرسين، وليس فيها الإثراء الذي يُغذَى به الطالب يومياً. وبالتالي، فإن كان هدف تلك الإعلانات تقديم شهادات لقاء المال، ولقاء عدم تعب الطالب وتحمله مشاق الدراسة، فإنها لا تؤسس لجيل عربي قادر على استيعاب مخرجات العصر، وهي من أدوات تخريب الشخصية العربية، ودعم استهلاكيتها، وقد لا نستغرب بعد خمس سنوات، أن نجد جلّ شبابنا يهجر الجامعات والمعاهد، وينكبّ على الشاشة كي يحصل على الشهادة – مهما كان نوعها – ثم يُعيّن في وظيفة لن يكون مؤهلاً لها، وبذلك يُصبح عبئاً على عملية التنمية في البلاد. وهذا أمر خطير لا بد وأن تقول وزارة التعليم والتعليم العالي كلمتها فيه. نحن ندرك أن مفهوم (الغاية تبرر الوسيلة ) معمول به في مجالات عدة، ولكن أن يصل ذاك المفهوم إلى التعليم، فهو أمر غير مُستوعَب، ويجب أن تتصدى له الجهات المعنية بالتعليم، حفاظاً على أجيال الشباب في المنطقة العربية، والخليجية على الخصوص، لأن هذه الأجيال قادرة على دفع رسوم تلك المغامرات التعليمية المشبوهة. تتجه معظم الأدبيات في العلوم المختلفة إلى التدريبات والتطبيقات العملية، حيث تؤسس الطالب على المُشاركة في عملية التعَلُم، وهذا لا يتأتى عبر التعليم عن بُعد، أو عبر المراسلة. تحضرني حادثة حدثت قبل سنوات قام بها زميل في العمل، حيث وزّع علينا استبياناً، باللغة العربية، لبحثِ تَخرّجٍ من جامعة أوروبية. وكان الاستبيان ضعيفا وغير مُنضبط من الناحية العلمية، ولقد رفض زملاء أكاديميون ملءَ الاستبيان، وبعد شهرين رأينا الزميل يضع لافتة أمام مكتبة تقول : الدكتور ......!؟ أنا أتساءل: هل هذا الشخص يخدعنا أم يخدع نفسه؟ وكيف حصل على الدكتوراة وهو لم يغادر مكتبه، وخلال ثلاثة شهور؟ ونحن الذين قضينا ثلاث سنوات في الغربة، بكل معاناتها وظروفها المناخية والاجتماعية، من أجل كتابة البحث، ثم كيف يتكون فِكر الدكتور إن لم يقضِ يومياً أكثر من 8 ساعات في المكتبة؟ ثم كيف تكون الشهادة إن لم يعترف بها الملحق الثقافي في سفارة البلد، ويوعز للوزارة بالاعتراف بها، بعد أن يتحقق من الاجراءات الأكاديمية، ويسأل عن الطالب بكل دقة. ثم ما قيمة الشهادة إن لم يبذل الطالب فيها الجهد المطلوب، وما هو الجديد الذي يحققه الطالب في مجال بحثه؟ أملي كبير أن تقول وزارة التعليم والتعليم العالي كلمتها في ما يتعلق بتلك الإعلانات التي تَزجّ اسمَ قطر فيما تنشره، لأن عواقب تلك الدراسة السهلة حتما ستكون وخيمة إن انخرط شبابنا فيها، كما أن تعويد النشء على مثل تلك الدراسة السهلة أمر يخالف توجهات التعليم في الدولة وقيامها بإنشاء واستضافة الجامعات العريقة من كافة أنحاء العالم.