27 أكتوبر 2025

تسجيل

وُعَّاظُ السَلاطين

15 مايو 2019

الاعتدالُ صنو الحق، والمغالاةُ صنو الباطل. ولقد لعبت السياسةُ وتقلباتُها دورًا مُهمًا في الإبحار بالدين يميناً وشمالًا، حسبما يُريدهُ «السلطان»! وحسبما يُنفذهُ أعوانُ «السلطان». وأصبح الإنسانُ المُسلم في حيرة من أمره، فيوماً يجدُ «السلطان» مع «الصحوة»، ومع التشدد في تنفيذ مبادئ الدين، ويومًا يجدُ هذا الإنسان نفسَه، مدعوَّا للإيمان بالنقيض، ويخلع ثوبَ التشدُّد ليلبس ثوبَ الليبرالية ،الذي لا «يخنق النفَس»! كما أصبح الإنسان المُسلم أكثر حيرة، عندما يجدُ «الوعاظَ» الذين سلّمهم «السلطان» أمرَ (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، يتحولون مع التحوِّل السياسي، من مواقفَ دينية ثابتة، ليدخلوا لى عالمَ الدجل والكذب، ومناقضة ما نادوا به من اتجاهات، وما ثبّتوا فيه أنفسَهم من مواقف، لأن «السلطان عايز كده»! وهذا يبعث الحيرة والتشكك لدى الإنسان المسلم! فبعد أن وثق هذا الإنسان البسيط بشيخِ دين لأكثرَ من عشرين عامًا، نجد هذا الشيخ (يقلبُ له ظهرَ المِجنّ)، ويدعو إلى اتجاهٍ آخر، مخالفٍ لكُلِّ المبادئ والدعوات والمواقف التي تربّى عليها هذا الإنسان، عبرَ المسجد أو البرنامج الديني في الإذاعة والتلفزيون. كُلُّ ذلك يحدث في زمن غابت فيه المواقفُ الإسلامية الثابتة لدى «وعاظ السلاطين»، ونسي هؤلاء «الوعاظ» أن (من أعظم الجهاد كلمة حقٍ أمامَ سلطان جائر)!؟ بل وأزالوها من صُحفهم الصفراء. ولعل حادثةَ الداعية السعودي (عائض القرني) خيرُ مثال على هذا الانتقال المفاجئ من اليمين إلى اليسار، وإعلان التوبة من الانخراط في المعترك السياسي، ليعود بعد ضغوط «السلطان» ليُدخِل أنفهُ في صميم السياسة، عندما هاجمَ دولة قطر على الملأ في إحدى القنوات التلفزيونية! مع أنه قال بأنه قد حذَّر في السابق من «انغماس عالِم الشريعة في الأمور السياسية»، مُعتبراً أن السياسة «أفسدت عليه علمه وإصلاحه»!. ومع كُلِّ ما قيل حول المقابلة المذكورة، حيث بدت ولكأنها تحقيقٌ استخباراتي قُصدَ منه إحراجُ الداعية، واستقطابهُ نحو القصر الملكي في المملكة، في مخالفة لكُلِّ الأعراف الأخلاقية والإسلامية، حيث قام بالهجوم – نيابة عن الحُكم السعودي – على كُلٍّ من قطر وتركيا وإيران، مع العلم بأنه كالَ المديحَ وأفرط فيه لدولة قطر، التي استقبلته قبل فترة، وظهر على قناة الجزيرة مُعزَّزاً مُكرّماً. وكيف يتحول عضوٌ في (الصحوة) بين ليلة وضحاها إلى مؤيد واضح للسياسات الانفتاحية التي يقودها ولي العهد السعودي، وسط استياءٍ شعبي وديني داخل المملكة، بل وإن هذا التأييد يخالفُ ما كان يدعو له (القرني) من ضرورة حفظ المجتمع من بواعث الفساد، والتخلي عن القيم الإسلامية الأصيلة، متمثلا ذلك في الاختلاط، وإقامة الحفلات، ونسفَ كُلِّ القيم التي قام عليها المجتمع السعودي، والذي يُلزمك رجالُ الأمن فيها بألا تمشي بجانب زوجتك في (المول)، بل تتركها وحدها !؟ فكيف الآن والبنات يغزين المقاهي دون غطاء، والذي كان من المُحرمات فيما مضى. ومع تقدير البعض للحالة الأمنية في السعودية، والخوف من « المناشير» الي تُنصب لأي مُخالف للموجة الانفتاحية، حتى لو تجاوزت مبادئ الدين وأعرافَ المجتمع، إلا أن القوة حتمًا تصنعُ الموقف، ولو كان أيُّ عالِم، يكون تحت تهديد القوة، لكان غيّر اتجاهَ بوصلته، دون أن يؤمن بهذا التغيّر، حفاظًا على حياته وأمنِ أسرته، وهذه حقيقة يجب ألا نخاف من نشرها. وتناسى (القرني) زملاءَهُ من الدعاة وأصحاب الرأي الذين زُجَّ بهم في السجون، وما لاقاهُ بعضهم من تعذيب وإكراهٍ وسوءِ مَنزلة؛ ليقوم بتدبيج «المدائح» لـ «ولاة الأمر» رغم ما قاموا به من أفعال ناقضت ثوابتَ المجتمع بإقامة سجن (الرتز) في الرياض، والاستيلاء على أموال المواطنين دون وجه حق. وأيضًا اعتقال النساء والبنات لمجرد الرأي لا غير، وكذلك المآسي والقتل التي مُورست ضد أطفال وبنات وشيوخ اليمن، وتدمير البنى التحتية في اليمن، ما جعله يتخلف أكثرَ من خمسين عامًا زيادة على تخلُّفه. التناقض والانتقال من رصيف إلى نقيضه لدى بعض علماء الأمة، يُشتت العقول، ويُضعف البصيرة، فيما يتعلق بأمور الدين، ويجعل الإنسان البسيط حائراً حول حقيقة تاريخ هذا الدين القويم، الذي ظل صامداً أكثر من خمسة عشر قرنًا من الزمان. ولقد أصدرت هيئة علماء السعودية بيانًا ردّت فيه على مغالطات عايض القرني، واعتبرتها نوعاً من النكوص على الأعقاب (حسبما ورد في وسائل التواصل الاجتماعي). ولقد أظهر الداعية (القرني) ولاءً غير مسبوق، وبأسلوب لا يليق بعالِم دين، وبخضوع تام، بأنه تحت سلطة النظام، بعيداً عن سلطة الله والضمير، عندما قال في المقابلة المذكورة : «أنا سيف من سيوف الدولة في يد الملك وولي عهده»، ونحن نعرف أن سيوف المسلمين، بدءًا من سيف خالد بن الوليد، وحتى سيف صلاح الدين الأيوبي، هي سيوف الله المسلولة، ولم تؤجر تلك السيوف يومًا لأحدٍ غير الله!؟ كما أوغل (القرني) في مقابلته بأن قطر وأردوغان وإيران والإخوان كانوا مُبيتين النية ضد المملكة، وحيث إنه رجل دين، كان عليه أن يتريث ويتحلّى بالحِكمة لا أن يُصدر أحكامًا جزافية عندما أطلق عبارة (الخمس نونات)، وقصَدَ بها : أن قطر تتبنى دعم تلك النونات: وهي طالبان، الإخوان، أردوغان، إيران، وحزب الشيطان! هذا التوليف ما كان يجب أن يجري على لسان داعية له كُلُّ الاحترام في العالم الإسلامي. واستتباعاً لمنع الحجاج القطريين من أداء المناسك في الديار المقدسة لثلاثة أعوام، هل ستتخذ السعودية قراراً بمنع الحجاج الإيرانيين والأتراك والأفغان، وكُلِّ من يخالف توجهات السعودية، من أداء الحج والعُمرة في الأراضي المقدسة، التي هي أراضي الله ؟؟! وكان الداعية (صالح المغامسي) قد دخل المعترك أيضًا معتبرًا أن (تيار الصحوة) كان متشددًا! وقال: إن ذلك التيار (الصحوة) هو المسؤول عن إطلاق فتاوى عدم جواز إخراج المرأة بطاقة الأحوال الشخصية، وأيضًا تحريم قيادتها للسيارة!؟ السؤال: أين كنتم يا معشر العلماء والدعاة، عندما جاهرَ أصحاب (الصحوة) بتلك الآراء التي ترونها اليوم «مُتخلِّفة» وتَحطّ من قدْر المرأة، وأنها تُقيد حُرياتِ المجتمع، طيلة حكم آل سعود!؟ أقول: إن السياسة قد تغلبت على الإسلام في السعودية، وهذا أمر خطير جدًا، لأن العبث بالثوابت يُشيع الفوضى في المجتمع، ويُضعف ثقة الإنسان بخالقه، ويجرُ النظامَ إلى الانحدار، وفقدان القيم والتعاضد الذي قام عليه المجتمع الإسلامي. كما أن تأييد الجماعات الدينية ورموز الدعاة لهذا «القفز السياحي» السريع نحو « حَضرَنة « المجتمع أو «تغريبه» وبصورة تخالف كُلَّ الأعراف ومنظومة القيم، لا شك تجعل الثقة في تلك الجماعات مهزوزةً، وبالتالي تُضعف رسالتهم التوعوية!؟ ونقول أخيرًا: «إن تحضر المجتمع لا يجب أن يُلغي الثوابت، كما أن على الدعاة ورجال الدين أن يُشكلوا عاملَ (كبح) للانفلاتات السياسية، والتي تنال من الثوابت، وتُحيل المجتمع إلى غابة، إن كثُرت طيورُها، فإن ذئابها تكونُ أكثر». [email protected]