30 أكتوبر 2025
تسجيلقبل أيام قليلة فازت ابنة صديقي العُمَاني بالمركز الأول عربيا في مسابقة "التحدث باللغة العربية الفصحى والخطابة والإلقاء الشعري وتعميق دراسة النحو" التي نظِّمت من قبل وزارة التربية والتعليم بمصر بالتعاون مع جامعة الدول العربية، ولأنّي من المهتمين بإعلام الطفل ورصد التجارب الناجحة والمتميزة للناشئة والشباب، فقد توقفت عند سرّ تميزها وسألت أباها، وهو أديب وصاحب مبادرات ومشاريع تربوية، عن الجهات التي أسهمت في هذا التميز، فعلمت أن لأسرتها الدور الأكبر فيما وصلت إليه.لقد قال لي بالحرف: إنّ اهتمامه باللغة العربية ليس مقتصرا على هذه الابنة التي تمتلك ناصية نظم الشعر رغم أنها في الصفّ الأول الثانوي فحسب، بل يتجاوزه إلى أخواتها اللواتي يكبرنها واللواتي هنّ أصغر منها، واختصر لي سرّ دوره في النجاح الذي وصلت إليه ابنته بتطبيقه مشروع اللغة العربية الوظيفية عليها وعلى أخواتها، حيث يقوم المشروع على جعل اللغة العربية كائنا حيّا يتفاعل مع البيئة المحيطة به، وضرب على ذلك مثلا بقوله: عندما نكون جلوسا على مائدة الطعام نحول حديثنا عن الموضوعات المتصلة به إلى أبيات من الشعر. ويستطرد قائلا: مما أذكرُ في هذا المجال أن ابنتي الصغيرة طلبت مني ذات مرّة أن أزيدها من السبانخ، فقلت لها إن كنت تريدين ذلك فأرجو أن يكون طلبك كما كان يطلبه الشعراء من الملوك قديما، وهنا تدخّلت أختها التي تكبرها (الفائزة بالمسابقة) لإنقاذ أختها الصغيرة محوِّلة طلبها إلى صيغة شعرية بسليقة جميلة: زدْ يا أبي كن طيباً معطاءً ... كالنحلِ فاقَ العالمين صفاء وكنت قد رصدت قبلها قصة طفلة باكستانية بدأت مشوارها في تعلّمِ العربية الفصحى عندما كان عمرها أقلّ من عامين، حيث كان أبوها يقتصر في التحدث إليها على العربية الفصحى، بدلا من لغتها الأم "الأردية"، ثم تابعتُ تطورات تجربتها في الأعوام الأربعة الماضية، حيث إنها مع إتمام عامها السادس أصبحت تتقن تماما العربية الفصحى، محادثةً وفهماً، إلى حد كبير، ثم اجتازت امتحانا جامعيا وهي في سنّ سبع سنوات عندما حصلت على شهادة جامعية من جامعة العلامة إقبال المفتوحة بإسلام آباد، ثم تمكّنت وهي في التاسعة من عمرها من الحصول على دبلوم عالٍ في اللغة العربية من الجامعة الإسلامية العالمية بإسلام آباد، وألّفت كتبا في التعبير باللغة العربية لغير الناطقين بها، وهي لا تزال الآن في سن العاشرة. وأعرف قصصا لأطفال آخرين اهتم أولياء أمورهم بلغتهم العربية وملكاتهم الأدبية فبرزوا في الإلقاء وصار لهم شأن في عالم الشعر والنثر والخطابة، ولكن ما يهمّنا هنا أمران اثنان: الأول الاهتمام الذي يلقاه الطفل منذ نعومة أظفاره بلغته العربية من الأسرة أو المدرسة ينعكس عليه في تميزه في هذا المجال، وهذا الاهتمام حتى يؤتي أكله ثمارا يانعة لابدّ أن يرّكز على الجانب الوظيفي أو العملي للغة، والممارسات العملية وربط اللغة بالبيئة المحيطة بالطفل، لذا لا ينبغي أن يدرّس النحو كقواعد نظرية جافة فقط، بل لابدّ أن يدرّب الطفل على ممارسة التحدث بلغته مع ضبط أواخر الكلمات وتأليف الجمل ليسلم اللسان من الخطأ في النطق والقراءة، ويسلم القلم من الخطأ في الكتابة، وعدم إغراق الطلبة في المسائل المتشعبة وخلافات المتخصصين. وينبغي أن يسمع الطفل هذه اللغة الفصحى سليمة وصحيحة من أهله ومن معلميه، ومن وسائل الإعلام وأن تعتاد أذنه على جمالها البديع، وعندها سنجد بدلا من عشرات القصص أن الكل محبّ للغته والحديث والإلقاء بها والكتابة فيها، متذوّقا لها، شغوفا بالمطالعة بلسانها.ولأنّ العاميّة هي الشائعة في بيوتنا، ولأنّ الاهتمام بلغتنا العربية الشريفة من قبل الأسر وأولياء الأمور وغرس حبّها لدى الأبناء منذ نعومة الأظفار نادر، فإن الأولى البحث عن مشاريع تهتمّ بهذه الجوانب وتعميمها على مدارسنا ومعاهدنا لتركّز على تعليم الفصحى لأطفالنا مع إيلاء الجوانب العملية، كالتحدث والقراءة بصورة سليمة وتذوق حلاوة اللغة شعرا ونثرا، الحصة الكبرى. هنا لابدّ من الإشارة إلى نظرية وتجربة الدكتور عبد الله الدنان في تعليم اللغة العربية بالفطرة أو السليقة والممارسة والإشادة بها، والتي تعتمد على استغلال القدرة الفطرية الهائلة لاكتساب اللغات عند الأطفال قبل سنّ السادسة وإكسابهم اللغة العربية الفصحى قبل أن تبدأ بالضمور بعد سنّ السادسة، كما تعتمد اللغة العربية الفصحى لغةً وحيدةً للتواصل في المدرسة طوال اليوم المدرسي داخل الصفّ وخارجه، بحيث لا يسمع الطالب في المدرسة إلاّ الفصحى ولا يقبل منه إلا الفصحى. حيث طبّقت التجربة في عدد من المدارس في أكثر من دولة عربية وحققت نجاحا كبيرا. ولاشك أن الأفق مفتوح لأي نظريات أو تطبيقات أخرى يمكن تعميمها لنصل إلى جيل عربيّ محبّ للغته الأم متقن لها عند التواصل تحدثا وكتابة.. وإلا فإنّ غربة أجيالنا عن لغتهم العربية ستظل قائمة بكل ما يكتنف ذلك من مخاطر وتحديات، بما في ذلك هوانها في نفوسهم وهيامهم باللغات الأخرى.