15 سبتمبر 2025
تسجيلكان يقف عند باب غرفة والديه وفمه على مقبض الباب، يفرك يديه تارةً ويحك رأسه تارة أخرى ليبحث عن إجابة وبخبطات خفيفة: — يمه.. — ها.. اشتبي؟ — متى أسوق السيكل؟ — المغرب... الحين الشمس كافخة!أقطب حاجبيه غضبا وزم على شفتيه حزنا من رد والدته، فلم يستطع أن يعود مرة أخرى ليسألها ثانية، خشية أن يركبها الغضب، فهو يعلم لو أن جملة " ورب الحرم والبيت " سبقت جملتها أصبح الأمر كقاعدة بلا استثناء، ونص لا يحتاج إلى اجتهاد، كانت تخشى عليه لدرجة الجنون، فتتخيل أن الأرض ستصبح كتلة حارقة وربما يتحول ابنها الوحيد إلى دجاجة مشوية إن سار فوقها، فسرعان ما توسوس لها نفسها بشأنه، كل ذلك لربطها أمور حياتها وعائلتها بالأمور المأساوية الخارجية...خرج أحمد لحبس نفسه في الصالة يراقب ساعة الحائط الخشبية القديمة ذات الحديدة الدائرية التي تتدحرج على الجانبين، ساعة قديمة تهز أرجاء المكان حينما تدق عقاربها معلنة الرحيل بين ساعة وضحاها، كان أحمد يتأمل دقاتها وينتظر وقت المغيب في ظهيرة لا ظل لها، أصابه الملل وهو يتنقل بين أشرطة غريندايزر والتدقيق في وجه هايدي، يتعارك في قضم أظافره وهو يتردد في السير تباعا ناحية غرفة أبويه ثم يعاود النزول إلى الصالة ليتعارك مع بعض الدمى أو الذهاب إلى "الفريزر" للاطمئنان على اللبن المثلج " بو نص " بأنه لا يزال موجودا فيشتاق إلى صوت تكسر الثلج عندما يفتح ذلك الفريزر الأبيض.كان " السيكل " هو أول هدية تقدم إليه بمناسبة نجاحه، فلا ينسى وجه أحمد العريض والذي زاد عرضه كرغيف دائري من شدة فرحته بتلك الدراجة ذات المقعد الأزرق، كانت والدته شديدة الوسواس وقد أصابها الحزن بعد شراء والده السيكل له، خشية أن يقتله... أو ربما يتفكك إطار واحد فينقلب أحمد على رأسه ويصاب بارتجاج في المخ... أو أن تنكسر حديدة ما وتنغرس في رجله فيصرخ تباعا وتجثي والدته على ركبتيها ليصدر منها صوت حزين فتصيح باسمه بعد لحظات من الصدمة: " أحمممممممممممممد... " ثم تقع جانبا بعد أن يسابق الدوران رأسها من سوء ما بشرت به...لم يكن أحمد يهمه سوى التقاط أنفاسه وهو يحرك رجليه على دراجة زهيدة الثمن، كانت في زمن الثمانينيات من أجمل وأغلى الهدايا... في وقت القيلولة لا يرغب أحمد في النوم بل يرمي حقيبته في صالة المنزل بعد عودته من المدرسة محمر الخدين من أشعة الشمس في صيف تجاوزت درجة حرارته أربعين درجة مئوية، زد عليه حرارة والدته حينما تتأكد بأن جميع كتبه قد اصطحبته وهو عائد إلى المنزل، ولم ينس قلما ولا ممحاة ولا مبراة، فتمد بصرها في حقيبته وهي تنثر علامات الاستفهام: " وين كتاب الشرعية؟ وين محايتك؟ برايتك حصلتها؟ حليت الواجب؟ أحمد؟! "، وهو في صمت عميق يعود إلى دميته ثم يفتح شاشة التلفاز ليتابع مسلسل " عقلة الاصبع " في جهاز مشوش ذي " أريل " يحتاج إلى تحريكه بشكل مستمر ليثبت توازنه.لا يزال يفكر في دراجته... عاد مرة أخرى فوقف مقابلا لباب غرفة والديه، وضع راحة يديه على سطح الباب وخده الأيمن ملتصقا به: — يمه! —.............. اووووووف... — يمه! — لا تسألني متى بتسوق السيكل! — لا يمه... متى يأذن المغرب؟ضحك والده بصوت مرتفع ثم فتحت والدته الباب بغتة، فأردفت إليه بالقول بابتسامة مفتعلة وهي تهز رأسها امتعاضا: " يا ليتك تحاتي دروسك مثل ما تحاتي اللعب... روح العب في سيكلك سندرتنا! "...تدار الكرة الأرضية ويسير الوقت بسرعة لا يستوعبها العقل... فينمو الشعر في جسد أحمد... وتظهر علامات شبابه ورجولته بمرور الزمن.... فيكبر وتكبر معه أوراقه الخضراء ويزرع على وجهه ذقن.... حتى يطرق الباب مرة أخرى على أبوين قد كبرا في السن ليسألهما بصوت مرتفع: " متى أسوق سيارة؟ "...فتسير بنا الحياة والعمر بنا يمضي... ولكل زمن روعته... فنكبر معا ثم نختلف! وقليلا ما نتفق!