27 أكتوبر 2025

تسجيل

المقومات الإيمانية للحضارة الإسلامية (2)

15 فبراير 2012

من ميزات حضارتنا أن لها مرتكزا عقديا وإيمانيا ولا تقتصر على الحضارة المادية بل إنها تنطلق من الإيمان والقيم وتطوع المادة لهما، بعكس باقي الحضارات، وقد كنا بدأنا بإيضاح المقومات الإيمانية لحضارتنا وسنكملها اليوم في هذا المقال بمشيئة الله. الإيمان المقترن بالعمل مسألة تعريف الإيمان من القضايا التي وقفتُ عليه طويلاً متأملاً، فوجدت أن تعريف أهل السنة للإيمان هو الأصوب، لأنهم جمعوا في تعريفهم بين الإيمان والعمل، بين الفكرة والتطبيق، فقالوا الإيمان " تصديق بالجنان، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان " فالإيمان عندهم مجموع هذه الثلاثة، وكل من أخرجوا العمل من مسمى الإيمان فقد انحرفوا عن النهج القيوم، بل عدّهم العلماء من الفرق المنحرفة، وأطلقوا عليهم اسم " المرجئة " لأنهم أرجأوا العمل عن الإيمان أي أخّروه. فالإيمان يورث العمل، ولا خير في علم لا يعقبه عمل، وإيماننا ليس إيمان اعتزال، أو إيمان دروشة وتصوف، إنما هو إيمان يحرّك نحو العمل، ويدفع باتجاه الإنتاج، فهو إيماني حركي، لا إيماني سكوني. - (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) في آيات كثيرة تجاوزت الخمسين موضعاً ربط الله تعالى بين الإيمان والعمل الصالح ومن ذلك قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ )البينة/7 بل ورتب الفلاح والنجاة على الإيمان المقرون بالعمل الصالح، فقال تعالى مقسماً بالعصر (وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3) )سورة العصر. والغاية من ربط الإيمان بالعمل هو إحداث اندماج بين الفكر والسلوك، " فمن مقتضيات الإيمان أن ينبثق من القلب في صورة العمل الصالح، وهذا ما يجب أن يدركه من يدعون الإيمان، وما أحوجنا - نحن الذين نقول أنّا مسلمون - أن نستيقن هذه الحقيقة: أن الإيمان لا يكون حتى ينبثق منه العمل الصالح، فأما الذين يقولون: إنهم مسلمون ثم يفسدون في الأرض، ويحاربون الصلاح، وشريعة الله تعالى، فهؤلاء ليس لهم من الإيمان شيء ". رابعاً - الدنيا المعدّة للآخرة في عقيدتنا الإسلامية الدنيا ممر إلى الآخرة، وأنها حياة مؤقتة، والآخرة هي الحياة الدائمة، لذا كانت الدنيا في تصور المسلم مرحلة إعداد للآخرة، وجسر يوصله إليها، كما قال ربنا تبارك وتعالى (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى) الضحى/4 ولقد وصف القرآن الكريم الآخرة وصفاً عجيباً دقيقاً، حتى يتعلق المسلم بها، ويعمل لأجلها، ولا يوجد في كل الأديان وصف للآخرة، كما وصفها القرآن الكريم والسنة النبوية، بتفاصيل دقيقة كأنك تراها رأي العين، ومن ذلك قوله تعالى يصف حال المؤمنين في الآخرة (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ )سورة الغاشية - الدنيا مزرعة الآخرة المسلم لا يفصل بين الدنيا والآخرة، بل يعمل في الدنيا ليحصد ثمار ما عمله في الآخرة، وعمله الذي زرعه في الدنيا هو من سيحدد مرتبته ومكانته في الآخرة، وليس نسبه أو مكانته في الدنيا، لذا لما نزل على النبي ((وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ )قام رسول الله (فقال: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ: اشتَروُا أنْفُسَكُم مِنَ الله تَعَالَى، لا أُغْنِي عَنْكُم منَ الله شَيْئَاً، يَا بَنِي عبدالمُطَّلِبِ، لا أُغْنِي عَنْكُم منَ الله شَيْئاً، يَا عَبَّاس بنَ عبدالمُطَّلِبِ، لا أغْنِي عَنْكَ منَ الله شَيْئاً، يا صَفِيَّةَ عَمَّةَ رَسولِ الله (، لا أُغْنِي عَنْكِ منَ الله شَيْئاً، يا فَاطِمَةَ بنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شئتِ من مَالِي لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ الله شَيْئاً ". - إيمانٌ وسطٌ متوازن من جمال ديننا، وروعة إيماننا، أنه دين وسط، وازن بين الدنيا والآخرة، بحيث لا يطغى جانب على آخر، وهذا ما نبّه عليه ربنا تبارك وتعالى لمّا قال (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ )القصص/77 وجملة (مَا آتَاكَ اللَّهُ )لا تنحصر في المال، بل هي أوسع من ذلك، لتشمل المواهب والمِنح التي يتميّز بها الإنسان على غيره، من كتابة وتأليف، وخطابة وإلقاء، وشعر ونثر، وقوة جسدية، أو قدرة على الإبداع والابتكار، فهذا كله يدخل تحت قول الله تعالى (مَا آتَاكَ اللَّهُ )، فإذا كان عندك مال أو علم أو قلم أو لسان أو موهبة أو إبداع فاستعمله في الدنيا للآخرة. - حقيقة الزهد عند الحديث عن التوازن لا يمكن تجاوز قضية الزهد، التي فُهمت بشكل خاطئ، وأثّرت سلباً على صورة المسلم الزاهد وحركته، فالزهد في مخيلة الناس شخص رثّ الثياب، نحيف الجسم، مهمَل المظهر، معتزل للناس، طويل الصمت، قليل الكلام، لأنهم ظنوا أن الزهد مسألة شكلية، تتعلق بالمظهر الخارجي للإنسان، والحقّ أن الزهد مسألة قلبية بالدرجة الأولى، فالزهد الحقيقي يكون في زخارف الدنيا وليس اعتزال الدنيا، وحسبنا في ذلك قول الله تعالى (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202) )البقرة فلا تتركوا الدنيا –باسم الزهد- للآخرين، يحكمونها ويديرونها بمناهجهم المنحرفة، لأنهم سينشرون الظلم والفساد بين العباد، ونحن من واجباتنا في هذه الحياة أن نرفع الظلم عن العباد، ونجتث الفساد. خامساً- الإيمان المقترن بالعلم من المقومات الأساسية التي قامت عليها حضارتنا الإسلامية هي أن الإيمان مقترن بالعلم، بل ويدعو إلى طلبه والاستزادة منه، لأن العلم الدنيوي في الإسلام يدعو إلى الإيمان أولاً، ففي عقيدتنا أن الإيمان يعين على العلم ومقترن به، أما في الأديان المحرفة، فلا علاقة بين الدين والعلم، وإن وجدت فهي علاقة صدام وصراع. ثم ليس هناك تعارض أو تصادم بين حقائق العلم وبين حقائق الإيمان، وإنما العلم عندنا مؤكد للإيمان ومثبت له، وشاهد بالتوحيد، بينما نرى في الغرب أن بعض العلوم تُغرس في العقول لتؤدي إلى الكفر، والعياذ بالله تعالى. - العلم والدين العلم إما أن يكون حقائق علمية ثابتة، أو نظريات علمية لم تثبت بعد، والدين إما أن تكون نصوصه واضح وصريحة، ولا تحتمل أكثر من معنى، وإما أن تكون نصوصه غير صريحة، بحيث تحتمل أكثر من رأي أو معنى. * فإذا كان النص الديني واضحاً، وكان العلم نظرية، وهناك تعارض بين النص والنظرية التي لم تثبت بعد، فيجب في هذه الحالة أن نأخذ بالنص، ونترك النظرية. * أما إذا كان العلم حقيقة ثابتة علميًا، والنص يحتمل أكثر من رأي، ففي هذه الحالة يجب أن نفسر النص في ضوء الحقيقة العلمية. * أما إذا كان العلم نظرية والنص غير واضح، نسكت وننتظر.