15 سبتمبر 2025

تسجيل

حِكْمة التَثَبُّت قَبْلَ اِتِّخَاذِ القرار

15 يناير 2015

قرارات المسؤولين في أي موقع إداري لها آثارها على سمعة الموظفين ومستحقاتهم المالية ومراكزهم الاجتماعية، ومستقبلهم الوظيفي؛ ولذا أمر الله تعالى عباده بالتدبر وتحري العدل، والتحقق والتثبت من المعلومات التي ترفع إليهم عن موظفيهم وأفراد دائرتهم حرصا على إصابة الحق والعدل، وفي نصوص الوحيين الكثير مما يُؤصل لهذا الخلق الإسلامي الرفيع، ومن ذلك سليمان عليه السلام في موضعين أولهما: عندما افتقد الهدهد في دوامه، لم يعجل باتخاذ قرار حتى يقف على سبب غيابه، فلعله يكون معذورا، "وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ* لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ"[1].. والثاني: عندما رفع إليه الهدهد تقريره عن مملكة سبأ، وقد تضمن، انحرافها وقومها عن الصراط المستقيم، وشاهد ذلك عبادتهم للشمس من دون الله، فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ *إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ* وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ "[2] لم يعجل باتخاذ قرار حتى يتحقق من ثبوت ما ورد في النبأ "قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ"[3] وشرع فى اتخاذ ما يتأكد به من أخبار ومحتويات النبأ، وبهذا التثبت يأمر الوحي القرآني في موضع آخر تلافيا للندم، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ[4]،"فَتَبَيَّنُوا" وقرئت: (فتثبتوا) وكلتا القراءتين صحيحتان.. قرأ ابن مسعود (فتثبتوا) وغيره من علماء التابعين، وقرأ الجمهور (فتبينوا)؛ والتبين والتثبت بينهما اشتراك نسبي في المعنى.وفي نفس المعنى يأتي التوجيه الرباني لصفوة الخلق صلوات الله وسلامه عليه، عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ"[5]،وفي شق الوحي الثاني السنة المطهرة " "لَو أُعْطِي النَّاسُ بِدَعْوَاهمْ لادَّعَى رِجَالٌ دِمَاءَ قَوْمٍ وَأَمْوَالَهِمْ، وَلكِن الْبَيِّنَة عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ"[6]. في هذه النصوص الدلالة على وجوب التثبت من الأمور قبل البت فيها، وبين يدي اتخاذ قرار مصيري، ذلك أن الإسلام، دين القسط والرحمة، بل إن الإسلام ليسد الطريق على الوصوليين والنفعيين، والذين يأكلون زملاء لحوم العمل، ويقعون فى أعراضهم: ففي الحديث "لاَ يُبَلِّغُنِي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِي شَيْئًا، فَإِنِّي أًحِبُّ أَنْ أَخْرُجَ إِليْكُمْ وَأَنَا سَلِيمُ الصَّدْرِ"[7]" والإسلام يحب للمسلم فضلا عن الموظف: أن يكون كريمَ الطباع حميدَ السجايا مهذبَ الأخلاق سليمَ الصدر مفتاحاً للخير مغلاقاً للشر إذا تكلم غنم وإذا سكت سلم، ولتعلم أن لكل جوادٍ كبوة ولكل عالم هفوة وسبحان من له الكمال، فلا يكن خطأ الموظف سببا لانتقاص حقه أو فرصة للنيلِ منه، ومن تمام رحمة الله وحكمته، أنه لا يأخذ الجناة بغير إقامة الحجة والإقرار بها- ولهذا أرسل الرسل - عليهم السلام، وأنزل الكتب، في الدنيا بدليل "وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا"[8] "أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ"[9]"أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ*ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ "[10]، وفي الآخرة بدليل" يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ"[11] "وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ*قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ"[12] "كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ"[13]والحكمة من ذلك إقامة الحجة عليهم، وإسقاط أعذارهم، وتبديد حججهم،"رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا"[14] "وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى"[15] "وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ"[16] وأنكر المولى تبارك وتعالى التسرع دون التثبت ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾][17].والحكمة من مشروعية التثبت قبل اتخاذ القرار: أن يكون المرء من أمره على بصيرة، ويشاهد في مرأى مرآة فكره صورة الخيرة، ويأمن من تردد الحيرة، وقد قيل: أصاب متأن أو كاد، وأخطأ مستعجل أو كاد، ولا زالت ثمرة العجلة الندامة، وما كان التثبت في شيء إلا زانه، وفي ذلك أيضا: اكتساب الثقة في تصرفات المسؤولين وإجراءات ولوائح تنظيم وتسيير العمل، والتمكين للألفة في القلوب في مجتمع ودائرة العمل، ونأيا عن أي مفاسد وأضرار قد تترتب على اتخاذ قرار بناء على معلومات غير موثقة ولا دقيقة، وحرصا على سير العمل وكثرة ووفرة الإنتاج وإشاعة لروح الود والعدالة، حيث يأمن الموظفون من الحيف، ويزول عنهم الخوف من أن يُؤخذوا بجريرة غيرهم، ومن أن يُؤخذوا بمجرد الظن، أو الشكاوى الكيدية في محيط العمل، ونتيجة لذلك يتعمق ولاؤهم لبيئة العمل، ويتضاعف جهدهم وإخلاصهم مما ينعكس على الإنتاج وفرة وجودة، ويُقبل الصالحون على العمل ويستقيم غيرهم، بل تستقيم الأحوال عموما وينقطع الفساد الإداري.