29 أكتوبر 2025
تسجيلالفصول الأربعة والظواهر الطبيعية المرتبطة بها هي من سنن الله سبحانه، يجتهد الإنسان في التعايش معها ويحاول أن يكيّف نفسه ويتأقلم معها قدر الإمكان، بردا وحرا، ورياحا ومطرا وثلوجا..تعكس هذه الفصول نفسها على الحياة الاجتماعية وتفرض طقوسا وأجواء محببّة في العادة، وتترك في النفس ذكريات جميلة، ففي بلاد الشام على سبيل المثال يرتبط الشتاء الذي يكون شديد البرودة، ويشهد هطول الأمطار وتساقط الثلوج في العديد من المناطق، يرتبط بليالي السمر الجميلة، وأكل الكستناء مشوية حين يجتمع الساهرون حول المدفأة ويتلذذون بتقشيرها وتناول لبّها. وفي منطقة الخليج يرغب أهلها بالتخييم في البرّ بهذا الفصل، للاستمتاع بالهواء الطلق، بعيدا عن ضوضاء المدينة وصخب المجمّعات التجارية، ويحيون الليالي بالسمر أمام النار التي يوقدونها وبالشواء.وعندما ينزل الثلج في الشام وغيرها تكون فرصة للصغار والكبار للاستمتاع بمنظره الأبيض النقيّ والتراشق به، ويفرح الصغار وهم يشاركون في تشكيل رجل الثلج وتزيينه وأخذ صور تذكارية إلى جانبه. ومن القصائد المحفوظة في ذاكرة الأجيال كونها كانت ضمن المناهج الدراسية لبعض الدول العربية قصيدة يتذكر فيها الشاعر اللبناني رشيد أيوب، من شعراء المهجر، موسم الثلج في لبنان، فيقول:يا ثلجُ قد هيّجتَ أشجاني ذكَرتني أهلي بلُبنَانِباللهِ عَنّي قُل لإخواني ما زالَ يرعى حرمةَ العهديا ثلجُ قد ذكّرتني الوادي مُتَنَصّتاً لِغَذيرِه الشّاديكم قد جَلَستُ بحضنه الهادي فَكأنّني في جَنّةِ الخُلدِ لكن يبدو أن الأزمات والأوضاع الاستثنائية المرتبطة بالحروب والكوارث تفرض واقعا مختلفا في هذه الفصول، وخاصة مع شدة البرد أو الحرّ، وبدلا من أن تكون الأمطار والثلوج موعدا للبهجة والراحة واستدعاء الذكريات الجميلة تكون مواسم للهمّ والتخوفّ وشدة المعاناة والقلق.ولعل هبوب العاصفة الثلجية "زينة" و"هدى" نهاية الأسبوع الماضي، وتصدر نشرات الأخبار لمعاناة اللاجئين والنازحين السوريين بالدرجة الأولى والفلسطينيين في غزة بالدرجة الثانية، والصور المؤلمة التي ترافقت معها جعلت أجيالنا الراهنة ووسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي تتحدث بلغة أخرى غير لغة الحنين ولحظات الشوق واللهفة لبعض مظاهر الشتاء الماتعة. لقد أصبحت اللغة مختلفة، فثمة من يطلب من " زينة" و"هدى" ألا تطيلا الإقامة في ديارهم وتسرعا في الرحيل، رأفة بالضعفاء في المخيمات، ومنهم من استغرب أن تلصق الأسماء المؤنثة اللطيفة بالعواصف التي تحمل بين ثنايا أعطافها الموت والآلام والدموع. بل وصل الحد بأحد المغردين على حسابات "تويتر" للقول بروح فكاهية مغلّفة بالألم: "يا جماعة... زوّجوا هدى بسرعة عشان ما تعصف فينا". هبّت العاصفة الأخيرة فطغت صور الأطفال الذين قضوا بسبب البرد، ومنهم الطفلة النازحة إلى لبنان هبة عبد الغني (10 سنوات)، وصور الأطفال الذين يرتعشون بردا في أوحال المخيمات، على صور الأطفال الذين يشكّلون رجل الثلج أو يمرحون معا على بساطه الأبيض، وصرنا نسمع عن رجل يكسّر أثاث منزله ليجعل منه حطبا يتدفّأ به نظرا لندرة الوقود أو اختفائه، ونقص مصادر الطاقة الأخرى كالكهرباء، وأطفال ماتوا بسبب اشتعال خيامهم بسبب نار المواقد التي أضرمت داخلها.وحتى يبقى الشتاء جميلا في أذهان أطفالنا وأجيالنا ومجتمعاتنا، يجب أن نقف إلى جانب أصحاب الحاجات والعوز فنقدّم له المعونات الإضافية من ملابس شتوية واحتياجات التدفئة من مدافئ ووقود، ويصبح هذا المطلب أكثر إلحاحا في الأوضاع الاستثنائية كما حال بالنسبة للاجئين والنازحين السوريين.وحتى يكون الأمر أكثر فعالية وتأثيرا، فإنّ على منظمات المجتمع المدني والمحسنين والجمعيات الخيرية والمبادرات التطوعية أن تتحرك قبل فصل الشتاء بفترة كافية، باعتبار أن موعده محدد سنويا، وذلك حتى تضمن وصول مساعداتها في الوقت المطلوب، وليس بعد فوات الأوان، وألاّ ترتبط ثقافة المتبرعين والمؤسسات الخيرية بالتبرع لحظة وقوع الكوارث، والانفعال الآني لحظة التأثر فقط. رغم أنّ أكثر من موسم للشتاء مرّ على النازحين واللاجئين السوريين فإنّه لا تزال نسبة منهم تسكن الخيام وليس الكرافانات (الكبائن)، وهو ما يضاعف معاناتهم، ولعل التفات كثير من المؤسسات الخليجية لتوفير هذه الكبائن في العام الماضي والحالي يحسب لها، ومن خلال زيارتي لمخيم الزعتري بالأردن العام الماضي ظهر أن نسبة كبيرة من المأوى فيه قد تحوّلت من الخيام إلى الكبائن.ثمة احتياجات أخرى ترتبط بمواجهة الشتاء لابد من أن تؤخذ بعين الاعتبار حتى يكون الشتاء يسيرا على المنكوبين من أبناء الشعب السوري التي اضطرتهم الظروف لترك بيوتهم وديارهم، كالدواء والغذاء أيضا.اللهم لا تجمع على السوريين ـ ومن هم على شاكلتهم ـ عسرين، عسر التشرد وعسر الكوارث الطبيعية المرتبطة بالشتاء أو غيره من الفصول.