18 سبتمبر 2025

تسجيل

الميزان التربوي الحساس

15 يناير 2014

لا تعرف الروح المترفة التي أدمنت حياة الليونة والنعومة معنى أن تبحث لها عن دور حقيقي تقوم به لإرواء ظمأ الحياة إلى الجمال الإنساني المترجم سلوكا حميدا وفعلا رشيدا.هي لن تروي ظمأ الحياة لتجارب جميلة مؤثرة في الفعل والعطاء لأنها أصلا عبء زائد عن الحياة عبء ثقيل عليها لأنها اعتادت الأخذ أكثر من اعتيادها على العطاء.الروح المترفة هي روح مرهقة بالملل والرتابة والكسل وهي روح عليلة وإن بدا صاحبها متمتعا بأعلى درجات الصحة الجسمانية.لو أبحرنا عميقا واسترجعنا الأيام والسنوات الأولى في تربية هؤلاء المترفين المتفرجين على الحياة لوجدنا أن جذور الخلل في الشخصية قد بدأت في التكون مبكرا، وفي سنوات الطفولة الأولى بالتحديد.في تلك الفترة من الزمن لم تتوفار بيئة تربوية داعمة تعزز في الناشئ الرغبة في أن يكون مفيدا ونافعا لأسرته وزملائه في الفصل.إن الأم الصالحة والمعلمة الصالحة لا تغفل أي واحدة منهما عن التعامل الجاد مع الطفل الصغير كي ينمو لديه الاستعداد ليكون مفيدا ومنتجا.بحدود استطاعته ووفق قدراته يستطيع الطفل أن يفعل الكثير، العناية بكراسة وحقيبته، الاهتمام بأقلامه وقرطاسيته، تنظيف مكان لعبة في الحضانة، ترتيب ألعابه في المنزل.أمور بسيطة جدا لكن الاهتمام بها ينشئ طفلا إيجابيا يعتاد شيئا فشيئا تقدير الأشياء والعناية بها.الإحساس بالنعمة، صيانة النعمة والحفاظ عليها،حمد الله وشكره عليها، مساعدة الزملاء أثناء اللعب،عدم الأثرة أثناء اللعب، التحاور بدل المشاجرة، ثقافة الاعتذار عن الخطأ، مناداة الأصحاب بأسمائهم الصحيحة دون السخرية منهم، التعاون معهم في الدراسة، تقبل روح الفريق الواحد، تقديم هدايا رمزية بسيطة بعيدا عن التكلف وإظهار الغنى، بساطة الحقيبة المدرسية والابتعاد عن الماركات الباذخة، التعاون في إعداد وجبات خفيفة — حسب نمو الطالب — في المطعم المدرسي، العناية بأزهار الفصل والنباتات المحيطة بها.آلاف المفردات والعناصر الكثيرة التي تنتظم جميعها لتشكل صورة متكاملة لإنسان يتم تربيته ليقدر الأشياء من حوله ويكون نافعا لكل من حوله.تقدير الإنسان أيا كان وضعه ومكانته، معلما، زميلا،عامل نظافة، بوابا أم سائق حافلة، تكوين قاموس ألفاظ مناسب وثري ومفعم بالإيجابية واحترام الناس، مراقبة سلوك الطفل أولا بأول والاهتمام بتصويب أفعاله وتوجيهه الوجهة الصحيحة والمناسبة.حادينا هنا سيرة المصطفى الكريم عليه الصلاة والسلام حين تناول الحسن تمرة من تمر الصدقة وأكلها فوضع يده في فم الطفل الصغير وأخرجها من فمه وقال له كخ كخ.. ارم بها (أما شعرت انا لا نأكل الصدقة ).وروى أحمد في مسنده عن الحسن بن علي قال: أخذت تمرة من تمر الصدقة فتركتها في فمي، فنزعها صلى الله عليه وسلم بلعابها وقال: (إنا آل محمد لا تحل لنا الصدقة).نعم يا رسول الله ها أنت تعلمنا من جديد — نحن الذين نحتاج دوما لأن نعود لسيرتك العطرة — كيف تكون المراقبة والتربية والتوجيه واستدراك الخلل.إن نبي الله لم يسكت عن هفوة بسيطة قام بها طفل صغير لم يكبر بعد، ولم يصل سن التكليف ورغم ذلك تدخل مسرعا مستثمرا السلوك العملي ليصحح عمليا خطأ لو سكت عنه فإنه يخشى أن يتحول لعادة لدى حفيده وابن ابنته الطاهرة السيدة فاطمة رضي الله عنها.نعم لا تفويت ولا إرجاء ولا تغاضي عن أخطاء الصغار تحت حجة ما زالوا صغارا وليس هناك سجل يكتب سيئاتهم.إن هذا الموقف العملي وأمثاله مواقف كثيرة ليؤكد للمربين أن الاهتمام بالتفاصيل الصغيرة البريئة التي تصدر من الصغار هي المنبع والرافد الذي سيشكل بعد ذلك سلوكهم بل سيكسبهم الميزان العادل والصحيح ليزنوا به الأمور في حياتهم القادمة كلها.نستطيع أن نقتبس من هذه القصة المؤثرة دروسا من أهمها تحري المال الحلال ليدخل في جوف الطفل بركة المال الحلال الذي تنتج عنه ثمارا يانعة مباركة.هذا الربط العميق بين المال الحلال والحرص عليه ليكون مصدرا رئيسيا من مصادر الحفاظ على طهارة الطفل وسلامة ضميره وبيئته من أن تتلوث بما يغضب الله في الطعام والمعيشة هو الذي يجعلنا نؤكد خطورة التهاون في تكوين الطفل تكوينا نفسيا وجسديا وعاطفيا متوازنا يتخذ من المنهج النبوي مصدرا أساسيا في التنشئة والتكوين والتربيةإن الحصول على الشخصية الإيجابية المنتمية لأمتها ومجتمعها ليس أمرا يأتي بالمصادفة والخطوات المرتجله بل هو أمر يصدر من نفوس كبيرة تعرف معنى المسؤولية العظيمة الملقاة عليها في التربية والتعليم معا.