14 سبتمبر 2025

تسجيل

المعلمة الروبوت

02 أبريل 2014

دخلت الأستاذة هدى غرفة المعلمات وهي مغضبة ألقت التحية على زميلاتها ثم جلست على الكرسي وهي مثقلة بعبء بدا كبيرا وضعت رأسها على الطاولة بعد أن شبكت بين يديها وشردت بنظراتها إلى البعيد!!انتبهت زميلتها نورة لتغير حالها فاقتربت منها وبهدوء قالت لها: ما بك يا عزيزتي، ما الذي يسيئك، أنت لست على طبيعتك اليوم فما الأمر؟رفعت الأستاذة هدى رأسها وقالت: بل قولي ما الذي يحبطك إلى هذا الحد؟!الأستاذة نورة: خيرا ولم الإحباط يا عزيزتي وأنت القدوة والنموذج لكل المعلمات ليس فقط في مدرستنا هذه بل أنت أنموذج على مستوى المجتمع التعليمي بأكمله فمثلك يا عزيزتي نادر، أنت ملهمتي وملهمة المئات من المعلمات فإياك والإحباط!!الأستاذة هدى: يسعدني هذا الثناء والتقدير، لكن ما الفائدة إذا كان من يقيمون أدائي من المشرفين مصممون على أن أتحول لمعلمة روبوت تكرر ما في المنهاج الدراسي كل يوم؟نورة: كلنا يا عزيزتي مطالبون بالالتزام الحرفي بالمنهاج الدراسي، فما الجديد ولم كل هذا الحزن اليوم؟هدى: لأنه من غير الممكن ولا من المعقول أن يتم تقييم أداء المعلمة وفق كفاءتها في تلقين الطالبات، إن هذه الملاحقة والإصرار على تقييم قدرتنا في تلقين طالباتنا كل عنصر وجزء في المنهاج المدرسي تجعلنا ملقنين وليس معلمات ومعلمين!! شيء أشبه بالآلات الطابعة التي يضغط عليها بحرف معين فتطبعه دون زيادة أو نقصان!!نورة: أو روبوتات تكرر، وتعيد محتوى معين غذيت به فلا تعرف غيره!!هدى: نعم كل هذه المتابعة المستمرة والمساءلة اليومية عن كل مفردة في المنهاج لا يدع لي مجالا لممارسة دوري في توجيه طالباتي لمسارات تعليمية وآفاق علمية أرحب أتمنى أن أنقلهن إليها.نورة: لقد أثرت شجوني بنقدك الموضوعي والدقيق.هدى: مع استمرار حالة المتابعة والمساءلة والتحري عن كل جزئية في المنهاج تضعف طاقتنا الإيجابية ويضعف عزمنا عن تحقيق نقلة نوعية في أدائنا التدريسي. نورة: أتفق معك تماما!!هدى: انظري للمعلمات وحواراتهن اليومية لن تسمعي سوى الحديث عن الامتحانات الأسبوعية والشهرية والتقاويم والدرجات.نورة: صحيح!!هدى: انظري كيف صار الفرح كله مختزلا لدينا نحن المعلمات في الحصول على تقدير امتياز لجهودنا الحثيثة في تلقين الطالبات للمنهاج وتمكينهن من تحقيق أعلى المعدلات الدراسية في المواد التي نجحنا نحن بتلقينهن إياها!!لقد تحولنا يا صديقتي لجابيات للدرجات بدلا من أن نكون نوافذ للمعرفة بل مصادر للمعرفة كما كان علماء الإسلام الذين قدموا أروع النماذج في العطاء والإبحار في دروب العلم.نورة: لقد أثرت شجوني أتخيل لو أن الإمام مالك أو الشافعي أو الإمام أحمد أو أبو حنيفة كان كل واحد منهم يقيم أداء طلابه بالدرجات والتقاويم هل كانوا سيتركون خلفهم ذلك العلم الذي كان غيثا سقى العقول من ظمأ ورواها من عطش؟!هدى: الحمد لله أنهم طلبوا العلم لوجه الله ولم يصطنعوا عوائق تحول دون تدفق علمهم ما أدى لإقبال طلاب العلم عليهم من كل حدب وصوب بهمة ذاتية وشغف حقيقي للتعلم دون انتظار درجات وتقاويم.نورة: نعم، أتخيل الآن العالم وكيع بن الجراح الذي كان عمره لا يتجاوز التسعة أعوام حين كان يطوف مجالس العلم بهمة ونشاط دون كلل أو ملل يستمع للأحاديث ثم إذا عاد إلى بيته أخذ يكتبها.هدى: تخيلي لو أن معلميه وأساتذته كانوا يطاردونه بالامتحانات والدراجات هل كان سيمتلك الوقت الكافي ليتنقل بين حلق العلم ويطوف بين بساتين العلماء؟!نورة: حاله وحال غيره ممن بدأ العلم وهو في سن الطفولة أتذكر العالم المحدث سفيان بن عيينة رحمه الله وهو يحدث أصحابه عن بداية طلبه للعلم صغيرا حيث قال:لو رأيتموني ولي عشر سنين، طولي خمسة أشبار، ووجهي كالدينار، وأنا كشعلة نار، ثيابي صغار، وأكمامي قصار، وذيلي بمقدار ونعلي كآذان الفار، أختلف إلى علماء الأمصار كالزهري، وعمرو بن دينار، أجلس بينهم كالمسمار، محبرتي كالجوزة، ومقلمتي كالموزة، وقلمي كاللوزة، فإذا أتيت قالوا: أوسعوا للشيخ الصغير. هدى: جزاك الله خيرا لقد فرجت عني، وذكرتني بالعالم ابن الجوزي الذي كان عمره لا يتجاوز التسعة أعوام حين كان يغذ السير نحو العلماء وكان يضع في جيبه كسرة خبر يابسة لا يملك غيرها من شدة الفقر وكان يصل إلى نهر عيسى في بغداد يضع كسرة الخبز في الماء ليطريها ثم كان يأكلها وكانت حسب قوله ألذ في فمه من الشهد!!نورة: الله، الله، يا لها من بيئة تعليمية محفزة للنهل من بحور العلم وروافده، يا له من زمن كانت فيه النفوس ترى صلاحها بمقدار رسوخها في العلم والمعرفة، يا لهم من علماء شقوا دروبهم نحو المجد بالصبر والتصبر والمواصلة يا لها من صور مضيئة ويا له من تاريخ عظيم! هدى: صدقت إن الصور الرائعة لأطفال أقبلوا في سن مبكرة على التعلم بشغف وهمة عالية صادفت أساتذة وعلماء ومربون استقبلوا بحب عارم واهتمام بالغ تلك البراعم المتفتحة فأقبلوا يعلمونهم ويغدقون عليهم من أنواع المعرفة ما أسهمت في نقل العلم جيلا بعد جيل بل قرونا تلتها قرون.نورة: لقد كان حديثا ممتعا وشيقا خفف عني يا هدى وأنا التي ظننت أنني بحديثي سأخفف عنك، كم أنت رائعة أيتها الصديقة. هدى: أشكرك، إن ممارستنا للنقد الموضوعي لأنظمتنا التعليمية هو بداية لا بد منها لتحقيق نقلة حقيقية في مخرجات التعليم، والجمود والتحجر وعدم ممارسة النقد لن يحقق لنا التقدم الذي نريد.نورة: صدقت لا بد لنا من أحاديث جادة وعميقة نقرأ فيها واقعنا التعليمي لتكون لتلك الأحاديث أصداؤها ونتائجها الحقيقية طالما أن المعلمين والمعلمات هم في موقف المسؤولية العلمية والأخلاقية التي يتطلبها دورهم الكبير.