12 سبتمبر 2025

تسجيل

فضائيات شاردة عن المدار

14 أغسطس 2019

قُدّر لي أن أشاهد مجموعة من الفضائيات "الغريبة" الناطقة بالعربية، أثناء تواجدي في بلد عربي، وكانت برامج السحر والشعوذة، وبيع الأوهام حاضرةً في بعض برامج تلك الفضائيات. شاهدتُ مَن تقول عن نفسها إنها " مُعالجة روحانية"، وتحمل درجة الدكتوراه، وتختص بفكِّ (الربط)، حيث تقول للمتصل: "زوجتك عندها ربط بسبب امرأة"!. فضائية أخرى عجيبة، يستخدم المذيعان فيها (الجوال) للرد على المتصلين! ولكأن المحطة ليست فيها سماعات للإذن مرتبطة بالاستوديو! وأخرى لتفسير الأحلام، وما أكثر بيعها للوهم. تقرأ على الشاشة: لدينا خواتم سليمان لحلّ جميع مشاكلكم، للحجز اتصل (.....). تقرأ: الشيخ (إدريس) لفك المستور وطلب الحبيب، رقم الهاتف (....). تقرأ: عسل الثور الهائج ( Crazy Bull) وبه وعود وهمية للفحولة.. اتصل(...). تقرأ: لبعض الشباب المراهق: " عليجن العباس، كل بنية تشوف رقمي تتصل!. تقرأ: عاشق ودي بوحدة تستحق (كلبي)، يعني قلبي. تقرأ: الشيخ (أبورضوان) لقهر الجنّ وفتح الرزق وجلب ما وراء الحجاب. تقرأ: الشيخة الروحانية الصادقة، إبطال السحر، إكرام الجن، شغلة مهمة سواء في العالم العلويّ أم السفلي. تقرأ: الكفن لابدّ أن يكون من القطن، سعره من 3-5 دنانير للمتر، ولابدّ أن تظل تنظر للكفن يومياً، وتضعه في مكان بائن، كي تتذكر الموت! طبعاً، هذا غير الفضائيات الدينية المتعصبة التي تنشر "خوارق" لبعض الصحابة لا يصدّقها العقل ولا المنطق، ومنها ما يقول "الشيخ" لامرأة لم تحبل، اكتبي اسم الصحابي (....) على بطنك وسوف تحبلين!. أتساءل في نفسي: لو كان مخترع التلفزيون الذي بدأ أول تجاربه عبر أسطوانة حلزونية واسمه (فلاديمير زوركين) وهو مهاجر روسي عام 1923، وقبله قام الألماني (بول نيبكو) عام 1884، إلى أن دخل التلفزيون مرحلة الاستخدام الجماهيري عام 1948 في الولايات المتحدة. نعم، لو كان هؤلاء يعلمون أن اختراعهم سوف يتحول إلى هذا النمط من الفضائيات، لما أقدَموا على ذاك الاختراع الرهيب. وأن الروس، عندما بدأوا تجارب الأقمار الصناعية عام 1957، عبر القمر (سبوتنك 1) وما بعده، لو علموا أن الأقمار الصناعية، سوف تُستخدم بهذه الطريقة المُهينة، لما أضاعوا جهودَهم وتفكيرهم سنين طويلة!. مثل تلك المحطات "الخديجة" لا يمكن أن تساهم في توسعةِ مَدارك المواطن العربي، ولا تقدم له حلولاً ناجعة لمشاكل حياته اليومية، قدرَ ما تعطيه الوهم، وتجعله يتعلق بتلك الفضائيات، ولا يقوم بالبحث عن عمل أو تفعيل عقله لفائدته وفائدة مجتمعه. إن التلفزيون وسيلة ترفيهية وتثقيفية في المقام الأول، ولا يجوز أن تُستخدم لإغواء بعض المساكين، الذين يعانون أمراضاً نفسية، فيزيدهم ذلك مرضاً على أمراضهم، لأن القائم على الاتصال، في مثل تلك البرامج، يُدرك ضعفَ حيلة المُتصل، وحاجته للتعلق بأية وسيلة، من أجل تغيّير حياته، أو إخراجه من مشكلته، بدلاً من تحويل عقله نحو حل مشكلته عبر التفكير السليم والمبادرات الإيجابية، خصوصاً ما تعلَّق بأمور الزواج، الخيانة، ضعف العلاقة الزوجية، الانحراف الاجتماعي، ولربما عدم القدرة على التفكير السليم، فالمُصاب بمثل تلك الحالات، قد يُضحّي بثمن الرغيف، من أجل الاتصال، وسماع كلام قد يُخفف، لحظيًّا، من معاناته، ولكن في الأغلب يزيد من مأساته. أنا لم أسمع أن لدى اليابانيين أو الغرب مثل هذه البرامج، التي تُضيِّع الوقت والمال، وتقدّم أقوالاً، عبر مشاهدَ ثابتة، ونحن نعلم أن التلفزيون صورٌ متحركة، مَشاهِدُ لا نرى فيها إلا المُقدِّم أو "المشعوذ" وفوق رأسه، وتحت الشاشة رسائلُ تؤيد ما يقوله، وتنشر مآسي بعض المرضى، فلا إبداع في الصورة، وتلك مخالفة أولى في البث الفضائي. هنالك مَن دخل مجال التلفزيون من أجل اصطياد نقود بعض المرضى النفسيين، حيث لا توجد لدى هؤلاء محطات متكاملة، هندسياً وبرامجياً، ولا كوادر متخصصة، ولا اشتراكات في وكالات الأنباء، مجرد تأجير قناة على الأقمار الصناعية، وكاميرا داخل شقة ضيقة، والأنكى أن بعض المُقدمين يطلبون من المتصل أو المتصلة، أن يتصلوا بهم على هواتفهم الخاصة بعد البرنامج، ولكُم أن تتصوروا حجم فواتير الاتصالات على هؤلاء المرضى، وقد يكونون فقراء أو مُعدَمين! أعتقد، أن القضية متعلقة بالجهل في المقام الأول، من جانب المتصلين، وبالجشع من أصحاب هذه "الدكاكين" الفضائية، التي لا تبيع سلعاً جديرة بالاستهلاك الآدمي، في المقام الثاني. لذلك، لجأت بعضُ الدول إلى تقنين البث الفضائي، ووضع قوانينَ لممارسة مهنة البث، فيما عُرف بقانون (المرئي والمسموع). ولله الحمد، ما زالت منطقتنا الخليجية لم تصلها هذه الموضة المنتشرة في البلاد العربية، وذلك لوجود قوانين تحمي المجتمع من جشع بعض التجار. لأن حماية العقل، أهم من حماية المعدة، والتي أيضاً توجد لها قوانينُ صارمة من أجل صحة المواطن. الجهل، آفة كبرى، ولابد، من أجل حماية المجتمع، أن تَسنَّ البلدان التي تنطلق منها هذه الفضائيات قوانينَ واضحة لمبادئ البث التلفزيوني، كما أن للتعليم دوراً مهماً في حماية المجتمع من الانزلاق إلى مهاوي هذه الفضائيات. وإذا كان الشيءُ بالشيء يُذكر، فإن هجوم وسائل التواصل علينا، خلال العشر سنوات الماضية، أيضاً خلقَ حالة من الهيجان والتسرع والانشداه، بحيث أصبح الإنسان، لا شعورياً، يضع هاتفه على الطاولة، ويعود لتناوله بعد ثوان قليلة، وفي هذا كلام كثير، عن سلبيات الهاتف المحمول، إلا أنني أتحدث هنا عن المضمون، وآثار الدعَة والاتكالية على وسائل التواصل، التي سهّلت الوصول إلى المعلومة، في الوقت الذي نشرت الأميةَ الأبجديةَ والمعرفيةَ على نطاق واسع، وعدم قدرة (المتواصل) على التعبير السليم في الإملاء أو توليف الجُمل الصحيحة، وهذا أيضًا سوء استخدام للتكنولوجيا، التي لم يعرف مخترعوها، أنها سوف تُستخدم في تبادل (النكات) أو السباب، أو تحقير الآخر، أو التعصُّب الديني والقبلي. جميلٌ أن نستخدم التكنولوجيا لنشر المعرفة، وقيَمِ التسامح والاعتراف بالآخر، ونشرِ قيَم الحقِّ والخير والجمال، ونترفع عن تلك "الشتائم" التي نراها عبر هذه الأدوات، والانزلاقات، كما حدث بين إعلاميتين في المنطقة، بصورة لا تُناسب المرأة، لأن الكلمات الجارحة تتجاوز قيَمَ الدين والأخلاق والإنسانية. جميلٌ أن نتقارب عن طريق أدوات التواصل، بدلاً من أن نتباعد، كما هو حاصل اليوم، أربعة أشخاص في صالة واحدة، وكُلُّ واحد منهم لا يشعر بالّذي أمامه، ولا يريد أحداً أن يقاطعه، ويُخرجه من عالمهِ المُثير. جميلٌ أن نستخدم هذه الأدوات في التعليم، وهي وسيلة ناجعة للتواصل، بدلاً من عبارات وصور (هلا بالخميس)!! هامش: بمناسبة الحديث عن الفضائيات، نلاحظ ظاهرة التمَحْور حول الذات، (Egosim) لدى بعض مذيعات الفضائيات العربية، طمعاً في ترقية أو "التقرّب"، وتجد المذيعة تُهين ضيوفَها، وتُقاطعهم قبل أن يُكملوا الفكرة التي يتطلبها المقام، ولكأنها في مجلسها الخاص !؟ وهذا تصرّفٌ شائن يُنفِّر المشاهدين عن المحطة!.