15 نوفمبر 2025

تسجيل

الفوضى غير الخلّاقة

14 أغسطس 2017

برز مفهوم الفوضى الخلّاقة (Creative Chaos) في أوائل القرن التاسع عشر على يد أحد المؤرخين الأمريكيين وهو (تاير ماهان)، إلا أن المفهوم تطور أكثر بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، وظهر بشكل أوسع عام 2003 بعد احتلال العراق. ويعني المفهوم (الهدم ثم البدء بالبناء)، ويربط البعض هذا التوجه بما أعلنه (هاننجتون) في (صراع الحضارات)، والذي رأى أنه لا يمكن أن يحدث أن تتآلف الحضارات مع بعضها. ويُركز المفهوم على تآكل الدول أو المناطق، أو إدخالها في حالة صراع، بحيث تفقد المجتمعات ثقتها في أدوات الحكم، حتى يسقط النظام. ثم تبدأ بعد ذلك عملية البناء في هذه المجتمعات على مبادئ جديدة تأتلف معها تلك المجتمعات. ولقد ورد المفهوم في صياغة (فرانسيس فوكوياما) حول (نهاية التاريخ)، حيث قسّم فيها العالم ما بين عالم تاريخي غارق في الاضطرابات والحروب، وهو الذي لم يلتحق بالنموذج الديمقراطي الأمريكي، وعالم آخر ما بعد التاريخي وهو الديمقراطي الليبرالي وفق الطريقة الأمريكية. ويرى أن عوامل القومية والدين والبنية الاجتماعية أهم معوقات الديمقراطية. (www.ahewar.org) ولقد بدأت الولايات المتحدة بتطبيق مفهوم (الفوضى الخلّاقة) اعتبارًا من 2003 في العراق! ولقد أعلنت وزيرة الخارجية الأمريكية (كونداليزا رايس) هذا المفهوم عام 2005 – كما ذكرت الواشنطن بوست – حيث قالت: "إن الولايات المتحدة ستلجأ إلى نشر الفوضى الخلّاقة في الشرق الأوسط في سبيل إشاعة الديمقراطية". وهنالك عدة وسائل تتحكم في عملية الفوضى الخلاّقة، وهي: المرحلة الأولى: وتستهدف خلخلة حالة الجمود والتصلب غير المرغوب في النظام المستهدف. المرحلة الثانية: وتسعى إلى الوصول إلى حالة من الحراك والفوضى المربكة والمقلقة لذلك النظام. المرحلة الثالثة: تهتم بتوجيه تلك الفوضى وإدارتها للوصول إلى الوضع المرغوب فيه. المرحلة الرابعة: تشمل استخدام المدخلات التي أحدثت الفوضى لإخمادها، وتثبيت الوضع الجديد بشكله النهائي، إلى جانب الاطمئنان لترسانة القوة العسكرية والأساطيل الأمريكية في المنطقة، وهي أهم عناصر المعادلة التي تستند إليها الفوضى. (www.weiziwezi.com) ويرى فريق آخر أن الفوضى الخلّاقة ما هي إلا "وهم" بشّرت به وزيرة الخارجية الأمريكية، ولكن دون إثبات نتائجه. ولقد أسماها بعضهم (الحيلة الأمريكية)، كما ورد في (الواشنطن بوست) يوم 9/4/2005، والتي أضافت لكلام (رايس): "الفوضى تنشأ في العادة عن الدمقرطة هي (فوضى خلّاقة) ينشأ عنها الأفضل في النهاية". ولا يمكن أن تنتشر الفوضى الخلاّقة إلا بوجود أرضية ملائمة لها، تساهم فيها الأنظمة والتيارات الفكرية، التي تحارب الإصلاح وتلجأ إلى العنف، ولقد حصل ذلك في العراق منذ عام 2003 وسقوط الديكتاتورية، ثم في اليمن، ليبيا، سوريا، وبدرجة أقل مصر، وهذا يُثبت خطأ المفهوم من الناحية العملية أو التطبيقية، إذ ما زال العراق يعاني التشقق الاجتماعي والانفصام الديني والعرقي، وما زال اليمن – رغم سنوات العاصفة – يعاني عدم التوافق والاختلاف واحتمال التجزئة وشيوع الأمراض، إلى جانب أنه أصبح ملعبًا للتنازع في دول الإقليم، بحيث ظهر الخلاف واضحًا حول المبادئ العامة لإنقاذ اليمن، بقيام جماعات ودول بخلق بؤر جديدة للتحالفات والسيطرة على الأرض، مما يمكن أن يؤدي إلى سقوط التحالف، ودخول اليمن ومن حولها في حرب أهلية قد يطول مداها! الفوضى غير الخلّاقة، وهو موضوع اليوم هو الحصار الذي تم فرضه على الشعب القطري منذ الخامس من يونيه الماضي من قِبل كل من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة ومملكة البحرين، ولا أعلم لماذا تم "حشر" جمهورية مصر العربية في هذا الخلاف الخليجي؟ أو تأثير (جزر القمر) على مجريات الأمور على الأرض؟ الإشكالية هنا أو الميزة، أن الشعب القطري يعيش في رخاء وتآلف وتناغم مع الدولة، ولا توجد حالة صراع في البلد تستحق المغامرة بتطبيق مفهوم الفوضى الخلّاقة، لمحاولة تغيّر في البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية (كما هو الحال في العراق وسوريا واليمن وليبيا ومصر)، ثم إن قطر قد تجاوزت العديد من دول المنطقة في توفير الحياة الآمنة والرغيدة للمواطنين وغيرهم، وحافظت على التوازن في سياساتها الخارجية. كما أنها لعبت دورًا مهمًا في نزع فتائل الحروب والخلافات في العديد من دول العالم. ناهيك عن حالات الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي التي اضطلعت بها الدولة منذ العام 1995، مع التركيز على التعليم وتنمية الموارد البشرية، ولن يسعنا الحيّز التطويل في هذه المنجزات، ومنها الثقة الدولية بتنظيم قطر مونديال عام 2022. وإذا ما رجعنا إلى الوسائل التي تتحكم في عملية الفوضى الخلّاقة الأربعة، لوجدنا أنها طُبقت خلال الحصار على دولة قطر. إلا أن الواقع على الأرض كان مختلفًا عما كان عليه الحال في الدول المذكورة. فالالتحام بين الشعب القطري وقيادته لا نظير له في تلك الدول التي عانت فقدان الكرامة والحرية، إلى جانب الفساد الإداري والبطالة وعدم توافر فرص العمل وتدني الأجور. كما أن دولة قطر لم تستند إلى الترسانة العسكرية الأمريكية أو الأساطيل، كما ورد في المرحلة الرابعة، خصوصًا بعد تصريحات الرئيس الأمريكي (دونالد ترامب) بعد عودته إلى الولايات المتحدة من الرياض، خصوصًا ما ناقض به ما قاله في الرياض عن (وقوف قطر ضد الإرهاب) عند لقائه مع سموه الأمير أثناء المؤتمرات التي عقدت في المملكة العربية السعودية في مايو الماضي. وبرز في تلك المؤتمرات بلورة "رؤية مشتركة للسلام والتقدم والرخاء، ودعوة لمكافحة الإرهاب والتطرف وطرد الإرهابيين من أماكن العبادة". وهي عبارة شاملة تتجاوز منطقة الخليج إلى الأراضي المقدسة في فلسطين. ولقد خرج (ترامب) من الرياض "منتشيًا" بعد العقود التي وقّعها مع الطرف السعودي بقيمة 460 مليار دولار، تُضاف إلى الـ110 مليارات قيمة صفقة أسلحة وقّعها البلدان سابقا". نقول: لم تتآكل دولة قطر من الداخل، ولم يهتز موقعها السياسي والاقتصادي، ولم تهتز العلاقة بين الدولة والمواطنين والمقيمين. ولم تظهر "مبادئ جديدة" لتحكم المجتمع العربي المسلم. وهذا يعني أن استخدام الفوضى الخلاّقة لم ولن ينجح في قطر، بل أدى استخدام المفهوم إلى نتائج عكسية لواقع الحال في الدول المأزومة، حيث مضى على العراق أكثر من 14 عامًا ولم تتحقق فيه الديمقراطية، ولم يأتلف الشعب على مبادئ جديدة؟! تمامًا كما هو الحال في بقية الدول العربية التي اصطلت بنار (الربيع العربي)! ولقد قامت دولة قطر بإدارة دفة الفوضى الخلاّقة الموجهة لها وتحويلها إلى "غير خلاقة" عبر التعاضد الداخلي، وعبر الدبلوماسية النشطة في دول العالم وفي المحافل الدولية، ولم يغب عن بال الدولة أهمية التحصين الداخلي من جميع النواحي، بما في ذلك النواحي العسكرية، ولقد ثبت نجاح هذه الرؤية بتطبيق الاتفاقيات العسكرية مع الجمهورية التركية، رغم وجود قاعدة (العديد) العسكرية! ولقد قطع هذا التحرك الطريق على عدة احتمالات أو "نوايا" تستهدف تعكير الأمن داخل الحدود القطرية. أما الجانب الآخر لمفهوم الفوضى الخلّاقة، والذي برز في محاولات دول الحصار "إيذاء" قطر، فهو "التقلب" في المواقف تجاه إيران الشيعية المذهب، وحفاوة استقبال وزير الخارجية السعودي (عادل الجبير) لنظيره الإيراني (محمد ظريف) على هامش اجتماع إسطنبول الإسلامي، واستقبال ولي العهد السعودي (محمد بن سلمان) لزعيم التيار الصدري في العراق (مقتدى الصدر) في الرياض، فيما رشح أن الزيارة بحثت سبل الاستثمار والتنمية السعودية في العراق، وتقديم مساعدات للمهاجرين والمتضررين. كما قررت السعودية تقديم 10 ملايين دولار إضافية لمساعدة النازحين. تبقى ملاحظة أخيرة هنا، هي أن الفوضى الخلّاقة الخليجية بدأت في اليمن ثم في قطر، ثم امتدت أذرعها نحو (المهرة) في اليمن والجزر التابعة لليمن، ثم الكويت بظهور خلايا إرهابية تنتمي إلى تنظيم الدولة (داعش)، وإحباط قوات الأمن الكويتية المخطط الذي يستهدف زعزعة الأمن والاستقرار في دولة الكويت مع بداية شهر أغسطس 2017، ومن ثم إدخال إيران، بعد مصر، على ذات الخط لتأكيد تطبيق الفوضى الخلاّقة، لكن الوضع في قطر مختلف جدًا.