13 سبتمبر 2025
تسجيلحين ينفض غبار الأزمة المالية العالمية سينكشف الغيم عن كثير من الأسرار التكنولوجية والعقول البشرية كانت مثل الكبريت تذكر ولا ترى، تبحث عمن يوفر لها المأوى وهي وحدها القادرة على تحديد معالم الخارطة الاقتصادية العالمية لعالم ما بعد الأزمة، صحيح أن ثمة أقطابا تحددت سلفا وربما يرجع لها الفضل في فك العزلة والاحتكار الذي عرفته الصناعة خلال العقود الماضية وهي الدول المعروفة بالاقتصادات الناشئة ولكن لا يعني ذلك بحال من الأحوال أن الاقتصادات النامية في حال ما إذا استفادت من مجمل الثغرات التي وقعت الدول المتقدمة ضحيتها سترقى إلى رتبة النامية أو المتقدمة أو على الأقل ستدرج ضمن لائحة الانتظار.أما إذا عملت تلك الدول على التسويف والانتظار حتى تعود الأمور إلى مجاريها وتشتري تلك الأسرار أو تتبخر وتتشكل الخارطة الاقتصادية لعالم ما بعد الأزمة حينها تتحول الدول التي فاتها الركب نامية كانت أو ناشئة إلى سلة لتسويق منتجات اللاعبين الجدد ويتحول الحصول على مقدار ذرة من مركب صناعي إلى أمر من الصعوبة بمكان وذلك بدليل أن الثورة الصناعية التي عرفتها أوروبا خلال القرنين الثامن والتاسع عشر والتي عرفت قدرا كبيرا من التكتم والاحتكار ورغم ذلك فقد هاجر المئات من العمال المهرة والمصنِّعين، مصطحبين معهم المعارف الجديدة عن الصناعة آن ذاك حين تقلص الدور الأوروبي لتحتضنهم الولايات المتحدة وغيرها من الدول لتطوير اقتصادها واستغلال مواردها لتتمكن في ما بعد من لعب دور المحرك الذي يوفر النمو للاقتصاد العالمي كما استوعبت اليابان من جانبها منجزات الغرب العلمية، محققة بذلك ثورتها الصناعية والفتاة الذي بقي هو ما تغذت عليه الاقتصادات الناشة لتصل الكرة عليها حاليا فتنضاف ضمن اللاعبين الجدد، فلو دامت لأوروبا لما وصلت إلى الولايات المتحدة وهكذا دواليك، فدوام الحال من المحال.وإذا كان الوهم الذي راود المستثمرين في العالم أجمع خلال العقود الماضية من وجود لأماكن تدر عليهم إيرادات كبيرة خارج القطاع الصناعي، ووجدوها في أسواق المال وهو مجال اقتصادي وهمي افتراضي في جانب كبير منه، قد تبدد إلى سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء بعد انفجار الفقاقيع المالية، فإن انتشال الاقتصاد العالمي من الوحل مجددا قد يتطلب قاطرة جديدة تعيده إلى سكة التقدم ثانية وما من شك في أن عرباتها ستكون صناعية بامتياز. يقودنا هذا إلى التساؤل عن الدور المستقبلي الذي ستلعبه دول مجلس التعاون الخليجي في ظل نظام دولي متذبذب يتأرجح بين الصعود والهبوط وفي ظل الطفرة التي تشهدها نتيجة تراكم مداخيل النفط والشوائب التي أصبحت تتخلل الاستثمار في المال والعقار، هل ستتحرك بديناميكية متسارعة مدعومة بالبنى التحتية التي تمتلكها واتفاقيات التكامل الموقعة بينها للارتقاء بالأداء الصناعي وجذب المزيد من الاستثمارات إلى هذا القطاع الواعد لتنال نصيبها من الكعكة الضائعة بالقدر الذي يمكنها من حصول تنمية مستدامة فتكون بالتالي إما مشاركة في معالجة ما يعنيها من الأزمة بدلا من أن تصبح من ضحاياها أو حاصدة النتيجة المرجوة والتي تناسب حجمها ومكانتها وما هي الخطوات الجوهرية المطلوبة بشكل ملح في الوقت الراهن؟وإذا كان كل ما يخطر على بال الكتاب والقراء وصناع القرار والمبدعين والمفكرين أفكارا تستحق أن تأخذ بعين الاعتبار قد تبلور في المستقبل إلى خطوات عملية فإنه في وقتنا الحاضر يجب أن نلعب دورين متزامنين يرجع الفضل فيهما إلى صعود من قبلنا ولن نتبوأ المكانة اللائقة بنا قبل الانطلاقة منهما وهما صناعة المعرفة والإعلام.الدور الأول المرتبط بالمعرفة كون دول المجلس لم تعتمد الصناعة من قبل كأحد القطاعات الرئيسية في الاقتصاد وإذا أرادت مسايرة التوجه العالمي الجديد فإن ذلك يتطلب منها إعادة توجيه سياسات التعليم والتدريب، بتنمية القدرة على التصميم، المرتبطة بالقدرة على الابتكار، وعلى "البحث والتطوير وليس فقط نسخ التكنولوجيا وبالتالي فميلاد جيل صناعي قادر على مواكبة التطور المطرد باستمرار يتطلب الاستفادة بأعلى قدر ممكن من الثغرات الحالية سواء من خلال استقطاب العقول البشرية من أجل تطوير قطاع الصناعة والعمل على وضع نواة تقوم تلك العقول من خلالها بخلق جيل من المبدعين في المجال الصناعي أو من خلال شراء أصول بعض الشركات التي تعاني حاليا بسبب الأزمة، فعلى سبيل المثال نجاح شركة شنغهاي إلكتريك جروب الصينية في الاستحواذ على شركة أكياما اليابانية لإنتاج الطابعات عالية التكنولوجيا. صفقة كان هدف الصينيين منها هو الحصول على مصنع الشركة اليابانية، حيث كانت مصانع الشركة الصينية متخلفة تكنولوجيا عن نظيرتها اليابانية بأكثر من ثلاثين عاما. وعندما نجحت الشركة الصينية في شراء نظيرتها اليابانية تمكنت من طرح طابعات متقدمة بأسعار رخيصة حققت شهرة كبيرة في الصين وخارجها، هذه الصفقة وغيرها أصبحت في ما بعد شائعة أمام الشركات الصينية لتحديث التكنولوجيا لديها وتقليص الفجوة التقنية إلى حد بعيد والوصول إلى أسواق جديدة في الوقت نفسه.أما الدور الإعلامي فبقدرته على تذييل الصعوبات أمام تحقيق الإنجازات تنبع قدرته على تبديد مخاوف المستثمر وتشجيعه واستدراجه إلى الميدان وبقدرته على ألا تبقى الاتفاقيات والمشاريع حليفة النسيان يشحن الشارع ويعتبر المسألة هما أسريا ينبغي أن يشارك فيه كل بيت وبالتالي إقناع أفراد المجتمع بأن المسألة تخصه باعتباره المتضرر الأول والمستهدف بالإصلاح في النهاية أمر في غاية الأهمية، فعلى سبيل المثال حين لاحظ الأمريكيون تدني التحصيل والاستيعاب لطلاب المدارس الأمريكية مقارنة بنظرائهم، قامت الدنيا ولم تقعد في المجتمع الأمريكي، وأصبحت المسألة قضية أمن قومي، وعقد لها مؤتمر بعنوان «أمة في خطر»، وانبرت وسائل الإعلام تناقش مستقبل التعليم الأمريكي حتى غدت القضية حديث كل بيت. من هذا المنطلق فإن الفرصة المتاحة حاليا بسبب تداعيات الأزمة ومد الدول المتقدمة اليد لطلب العون من بلداننا فرصة قد لا تعوض بثمن وهي نفسها الفرصة التي أتيحت للبلدان الناشئة حين تداعى القطب السوفيتي، كما أسهمت في نهضة الأمريكيين بتقلص الدور الأوروبي، فهل نجيد نحن استخدامها لنتحول من حال إلى حال؟