13 سبتمبر 2025

تسجيل

تَلُّ الورد عندما يتحوَّل إلى تَلِّ الموت (1)

14 مايو 2019

لم يكن لعَبق الجوري ورائحةِ اللوز، وثمار التين والعنب والرمان أن يعيش، بعدما حَلَّ الدمار بتلك القرية، وحَطّت أشكالٌ من الغربان المتوحشة، وقامت بتخريب كُلِّ شيء، من الحيوان حتى الإنسان، وتَغتصبُ تلك الغربانُ لحظاتٍ مسروقة من عين الشرف والنقاء. الالتحامُ بين الثوار السوريين وقوات الجيش الرسمي لا يتوقف، والكلماتُ النابية تنبت من أفواه الجنود النتنة، والإهانات والتفتيشات على الحواجز، والرشوة، وعذابات الانتظار لا تتوقف. موضوع (الإسلاميين) و (الدواعش) وفرضُهم قوانينَهم الغريبة، على كُلِّ مَن يلاقونه بالقوة، وإن امتنعَ أحدُهم عن الانصياع لأوامر الجيش قُتل بدمٍّ بارد، أو أودعَ السجن دون أن يعلم به أحد. عالجت الرواية المأساة السورية من جميع جوانبها، بأسلوب أدبي راقٍ، ولكأنها تحملُ كاميرا تُسجّل الأحداث بكلِّ دقة. التناقضات كانت حاضرةً في الرواية، وكيف أن الابن (ربيع) الذي انضمَ إلى (التنظيم الإسلامي) يتحوّل إلى وحش، ويتبرعُ لتعذيب والده، الذي كانت له قيمة ووقار لدى أهل القرية، بل يأخذه بنفسه بعد تعنيفه إلى السجن. تناقض آخر يتجلّى في خوف (عمران) على ابنه (حيّان) الذي لم يُكمل تعليمه الابتدائي، ومخاطرته به، كي يخرج من معسكر اللاجئين في تركيا، إلى هولندا، حيث يصرف (عمران) كُلَّ ما في يده من مال، كي يؤمِّن تهريبَ الطفل، ومن ثم، وبعد سنوات، تأتي معاناة الأب في السفر من تركيا إلى هولندا، والالتقاء بابنه (حيّان)، الذي أصبح غربيَّ الطباع والهيئة والتفكير، كونهُ سكَنَ عند عائلة هولندية، ودخل مدارس هولندية! خيبةُ أمل تبدو على والديه المُسلمَين المُحافظَين، يحاولان إثناءَه عما يقوم به، حتى يهرب منهما ويتوه في شوارع اللهو والإجرام. الاغتصابُ أمرٌ مألوف ولا يفرق المتطرفون بين عجوز وفتاة. زوجة ( عمران)، (كافي)، تتعرض لمرات عديدة من الاغتصاب على يد جنود الجيش الرسمي، شأنها شأن (باهرة) أخت (عمران)، التي عانت من مرات الاغتصاب بصورة وحشية. في (تلّ الورد ) المكان (الذي قد يكون افتراضيًا لمن لا يعرف القرى والمدن السورية) والرواية، لا تشمّ إلا رائحة الموت، والاغتصاب، وولوج الرصاصة إلى الرأس، ولا ترى إلا الثياب النتنة وآثار التعذيب على الرجال والنساء، وتحوّل الإنسان إلى مجرد كائن لا يعرف ماذا يريد؟ ولا يستطيع التنبوء بما سيحدث بعد لحظة، يروي (عمران) ما حصل له بعد الاعتقال: « وجدنا أنفسنا مُطوقين من قبل رجال الأمن ونحن نهمُّ بالخروج في نهاية الدوام من المعمل، حشرونا في شاحنة وهم يسوقوننا بالعصيّ والركلات العشوائية كما تُساق البهائم، ثم أودعونا في فرع الأمن العسكري، وهناك جرّدونا من هواتفنا ومن وثائقنا الشخصية، ثم أنزلونا إلى سرداب، ووضعونا في غرفة مُعتمة ضاقت علينا، رغم اتساعها، بحيث لا يمكن للشخص أن يتمدَّد وعليه أن يظل واقفاً، وبالكاد يمكنه أن يجلس القرفصاء، في انتظار أن يأتي دورهُ في التحقيق، كانت أصواتُ التعذيب والاستغاثات تصل إلينا من الغرف المجاورة، صرنا نرتعدُ من الخوف، ومما ينتظرنا في غرف التعذيب، ثم دخل علينا ضابط ومعه بعض أتباعه، كانت ملامحهم قاسية وقبيحة، تفرّس الضابط في وجوهنا واحداً واحداً، ثم قال لنا: - متطلعوا في المظاهرات يا كلاب؟! بدكن حرية ؟! الآن سأريكم فيلماً سيعجبكم كثيراً.. خذوهم جميعاً إلى غرفة التعذيب». كلمات خارجة عن الذوق والأخلاق تنطلق من أفواه الضباط والجنود، دونما مراعاة لحقوق المواطنة، أو القانون المدني. يتواجه الابن (ربيع) بعد أن انضم إلى الجماعة الإسلامية مع أسرته، ويبدأ في تنفيذ قوانين الجماعة على الجميع، بدءاً من أبيه وأمه وحتى أخته (باهرة)، ويُغيّر اسمه إلى (أبو المثنى) كي يُصبح في النهاية جلاّداً يقطع الرؤوس الآدمية بكُلِّ وحشية وتلذُّذ، يدور هذا الحوار مع أسرته: «- ترفع صوتك على أمك وأختك الكبيرة يا ولد! هكذا علّمك قائدُك، ودينُك الجديد؟! أمام غضب الأم يتراجع (ربيع) قليلاً، ويخفف من لهجته: - يا ميمتي، يا روحي، أنا لا أريد إلا مصلحتكم، هذه الملابس التي ترتدونها حرام، لأنها تُظهر مفاتن المرأة، وأنا خائفٌ عليكم من عقاب الله. - الله أرحم الراحمين يا ابني، وهذا زيّنا، تعوّدنا عليه منذ زمن طويل، وهو محتشم وليس فيه ما يُعيب، ونحن نعرف الحلال والحرام. ونعرف أمورَ ديننا جيداً ولا انتظر منك يا ابن بطني أن تأتي الآن لتعلّم أمَّك أمورَ دينها! - كلامك صحيح يا أمي، ولكن هناك أشياء كُلُّنا نجهلها، وعلينا أن نسأل أهلَ العلم، والملابس السوداء أستر للمرأة، وتغطية الوجه ضرورية إذا كان وجه المرأة فيه فتنة، وأنت تعرفين جمال (باهرة)، هل تريدينني أن أسمع الناسَ يتحدثون عن جمالها وينظرون إليها وأسكت؟! عليها أن ترتدي العباءة، وتضع النقابَ في أثناء خروجها من البيت، وأنتِ لا بأس يكفي أن تلبسي العباءة. أتى ردُّ (باهرة) صارماً: -    لن أغيّر ملابسي يا (ربيع)، كُلُّ أهالي (تلّ الورد) يعرفونني، ولا أحد يجرؤ على الإساءة إليّ، فيكفيك فذلكة، ههه، وكأنكم انتهيتم من كُلِّ شيء، وصحَّحتُم كُلَّ الأوضاع، ولم يبق سوى حجاب (باهرة)!» وضعٌ انقلابيٌ على كُلِّ مكتسبات المجتمع، وصراعٌ بين الاعتدال والتطرف، وهي إشارةٌ واضحة على مدى تغلغل التطرفُ في حالة (تلّ الورد)، شأنه شأنَ العديد من المدن العربية التي رُزِءَت بالأفكار المتطرفةِ والمُخالفةِ لصيرورة العصر.