13 سبتمبر 2025
تسجيللهذا العلم أعني علم المواريث مكانة ومكانته بين سائر مفردات العلم تلك التركة التي تركها رسول الله — صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِه وسلَّمَ — " فإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ وَإِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَاراً وَلاَ دِرْهَماً إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظَ وَافِرٍ" صحيح الجامع حديث رقم: 6297،يدل على ذلك الحديث الشريف الذي رواه أبو داود والدارقطني من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص — رَضِيَ الله عنهما — أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (العلم ثلاثة وما سوى ذلك فهو فضل: آية محكمة أو سنة قائمة أو فريضة عادلة)[1]. قال الخطابي أبو سليمان في معالم السنن: الآية المحكمة:هي كتاب الله تعالى: واشترط فيها الإحكام؛ لأن من الآي ما هو منسوخ لا يعمل به، وإنما يعمل بناسخه.والسنة القائمة:هي الثابتة مما جاء عنه صلى الله عليه وسلم من السنن الثابتة. والفريضة العادلة تحتمل وجهين من التأويل:أحدهما: أن يكون من العدل في القسمة؛ فتكون معدلة على الأنصباء والسهام المذكورة في الكتاب والسنة.والوجه الآخر: أن تكون مستنبطة من الكتاب والسنة ومن معناهما؛ فتكون هذه الفريضة تعدل ما اخذ من الكتاب والسنة إذ كانت في معنى ما أخذ عنهما نصا"[2]. وكفي بهذا العلم فخرا أن الله تعالى فرض فرائضه وقدر سهامه فقال عز من قائل " نَصِيباً مَّفْرُوضاً"[النساء:7] وقال:" في ختام آية ميراث الأولاد " فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيما حَكِيماً" ونصها كالآتي "يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا "[النساء:11] *وللقرطبي رحمه الله تعليق دقيق على آية ميراث الأولاد هذه يقول رحمه الله تعالى: " هَذِهِ الْآيَةُ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ، وَعُمْدَةٌ مِنْ عُمَدِ الْأَحْكَامِ، وَأُمٌّ مِنْ أُمَّهَاتِ الْآيَاتِ، فَإِنَّ الْفَرَائِضَ عَظِيمَةُ الْقَدْرِ حَتَّى إِنَّهَا ثُلُثُ الْعِلْمِ، وَرُوِيَ نِصْفُ الْعِلْمِ. وَهُوَ أَوَّلُ عِلْمٍ يُنْزَعُ مِنَ النَّاسِ وَيُنْسَى رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (تَعَلَّمُوا الْفَرَائِضَ وَعَلِّمُوهُ النَّاسَ فَإِنَّهُ نِصْفُ الْعِلْمِ وَهُوَ أول شي ينسى وهو أول شي يُنْتَزَعُ مِنْ أُمَّتِي). وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ وَعَلِّمُوهُ النَّاسَ وَتَعَلَّمُوا الْفَرَائِضَ وَعَلِّمُوهَا النَّاسَ وَتَعَلَّمُوا الْعِلْمَ وَعَلِّمُوهُ النَّاسَ فَإِنِّي امْرُؤٌ مَقْبُوضٌ وَإِنَّ الْعِلْمَ سَيُقْبَضُ وَتَظْهَرُ الْفِتَنُ حَتَّى يَخْتَلِفَ الِاثْنَانِ فِي الْفَرِيضَةِ لَا يَجِدَانِ، مَنْ يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا (. وإذا ثبت هذا فاعلم أن الفرائض كان جُلَّ عِلْمِ الصَّحَابَةِ، وَعَظِيمَ مُنَاظَرَتِهِمْ، وَلَكِنَّ الْخَلْقَ ضَيَّعُوهُ. وَقَدْ رَوَى مُطَرِّفٌ عَنْ مَالِكٍ، قَالَ عبد الله ابن مَسْعُودٍ: مَنْ لَمْ يَتَعَلَّمِ الْفَرَائِضَ وَالطَّلَاقَ وَالْحَجَّ فَبِمَ يَفْضُلُ أَهْلَ الْبَادِيَةِ؟ وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ: كُنْتُ أَسْمَعُ رَبِيعَةَ يَقُولُ: مَنْ تَعَلَّمَ الْفَرَائِضَ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ بِهَا مِنَ الْقُرْآنِ مَا أَسْرَعَ مَا يَنْسَاهَا. قَالَ مَالِكٌ: وَصَدَقَ"[3]وبن يدي إعدادي لهذه المقالة، تذكرت أثناء إحدى زياراتي التوجيهية لمدرسة سيف الدولة الثانوية بإمارة الفجيرة في عقد التسعينات من القرن الماضي، مدير المدرسة يقول لي: ياشيخ: لقد كنت أظن أن التربية الإسلامية آية وحديث، فهى من البساطة والسهولة بمكان، ولكنى — والكلام لمدير المدرسة — وقد كنت مدرس رياضيات — عندما اطلعت على نظام المواريث، وجدت هذا العلم أعقد من اللوغارتمات عندنا في مادة الرياضيات. فحق لهذا العلم أن يكون نصف العلم،أقول: هذه النصوص والآثار آنفة الذكر فيها دلالة على تميز هذا العلم واستقلاليته بين سائر العلوم وقد اشتهر من بين الصحابة بهذا العلم الفاروق وزيد بن ثابت وذوالنورين وابن مسعود والصديقة ابنة الصديق — رَضِيَ الله عنهم أجمعين بل لقد ورد في الحديث "أَفْرضُكم زَيْدُ بنُ ثابتٍ"[4] أَخرجَهُ أَحْمَدُ والأربعةُ سوى أبي داودَ ولا يعنى هذا فراغ وخلو باقي الصحابة من هذا العلم بل شاركوه كما شاركهم فيما نهلوا جميعا منه من علم رسول الله — صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِه وسلَّمَ — ولكن تبقي الفروق الفردية ويبقى فضل الله الذي يؤتيه من يشاء ""وفى الصحيح «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ وَاللَّهُ يُعْطِي"[5]قال القفال[6]:ما تكلم أحد في الفرائض إلا ووجد له القول في بعض المسائل هجره الناس إلا زيداً فإنه لم ينفرد بقول وما قال قولاً إلا تبعه عليه جمع من الصحابة وذلك يقتضي الترجيح قال الماوردي وفي معنى الحديث أقوال أحدها: أنه قاله حثاً للصحب على منافسته والرغبة في تعليمه كرغبته لأنه كان منقطعاً إلى تعلم الفرائض بخلاف غيره، الثاني: قاله تشريفاً له وإن شاركه غيره فيه كما قال أقرؤكم أبيَّ. الثالث: خاطب به جمعاً من الصحب كان زيد أفرضهم، الرابع: أراد به أن زيداً كان أشدّهم عناية وحرصاً عليه، الخامس: قاله لأنه كان أصحهم حساباً وأسرعهم جواباً وقد كان الصحب يعترفون له بالتقدم في ذلك، وناهيك بتلميذه ترجمان القرآن فإنه أخذ عنه وبلغ من تعظيمه له أن زيداً صلى على جنازة أمه فقربت له بغلته ليركب فأخذ ابن عباس بركابه فقال زيد خلي عنها يا ابن عم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال هكذا نفعل بعلمائنا فقبّل زيد يده وقال هكذا نفعل بأهل بيت نبينا — صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِه وسلَّمَ — هذا وبالله التوفيق ومنه وحده العصمة من الزلل والخطأ والخلل في القول والعمل.