16 سبتمبر 2025

تسجيل

الأكل.. والشرب.. والإسراف... المعادلة الذهبية

14 يناير 2021

ما أن تصل المكان، حتى تتفاجأ بأكواب الشاي الورقية تملأ الأرض، يلقيها بعض المارة دونما اكتراث فور انتهائهم من احتساء مشروبهم المفضل وهو(الكرك)، ذلك المشروب المؤلف من الشاي والحليب وبعض البهارات والذي استمد اسمه من اللغة الهندية، وأصبح شربه ثقافة عامة لدى المجتمع القطري والخليجي عموماً، وسلوكا متأصلا لدى كافة شرائح المجتمع، إلا أنه متهم من قبل أخصائيين التغذية بأنه سبب من عدة اسباب للسمنة التي يعاني المجتمع من ارتفاع معدلاتها. أما المكان فهو وللمفارقة الساحة التابعة لأحد الأندية الرياضية، حيث تنتشر في تلك البقعة الصغيرة سيارات بيع الطعام والمقاهي المتنقلة، (فود تراك)، فعوضاً عن أن يكون هذا المكان مخصصاً لأنشطة رياضية، او أنشطة تجارية متعلقة بالرياضة، استثمرت بعض الأندية المساحات المحيطة بها بتأجيرها لأصحاب المطاعم المتنقلة، في خطوة يعتبرها كثيرون ترسيخا للعادات الغذائية والأنماط السلوكية السلبية والخاطئة. وبالرغم من الجهود المضنية التي تبذلها الدولة في سبيل تعزيز أسلوب حياة صحي وتشجيع اتباع نمط غذائي متوازن والحث على ممارسة الرياضة كأسلوب حياة مستمر، نجد أن الهجمة الشرسة من قبل شركات تصنيع الأغذية او المطاعم ومشاهير وسائل التواصل الاجتماعي وحتى الناس أنفسهم دون وعي منهم بذلك، أدت الى إضعاف النتائج المرجوة من الإجراءات التي تتخذها الدولة في سبيل مكافحة السمنة وما يرتبط بها من أمراض، فهل تكفي الجهود المبذولة في صد تلك الهجمة الشرسة والتي تقف وراءها رؤوس أموال ضخمة، وشركات ومؤسسات عابرة للقارات؟، أم إن الأمر يتطلب اتخاذ إجراءات أكثر صرامة وحلولا مختلفة بهدف توعية الناس بالمخاطر المترتبة على اتباع أنماط غذائية واستهلاكية خاطئة والحد من تأثر تلك العادات؟. تشير إحصائيات منظمة الصحة العالمية لعام 2014 إلى أن الأشخاص المصابين بالسمنة في دولة قطر يشكلون نسبة تجاوزت الـ 40%، في حين تجاوزت نسبة الأشخاص الذين يعانون من زيادة الوزن 78.1% بحسب الاحصاءات نفسها، في حين تعد السمنة السبب الخامس والرئيس للمخاطر الصحية على المستوى العالمي، كما انها سبب للإصابة بجملة من أخطر الأمراض كسرطان القولون، وسرطان الثدي، إلى جانب الإصابة بالسكري من النوع الثاني، وبناءً على إحصائيات منظمة الصحة العالمية فإن من بين عشرة أشخاص في قطر هناك 7 أشخاص مصابون بزيادة الوزن، و3 من بين 10 أشخاص مصابون بالسمنة. وقد حذرت إحصائيات وزارة الصحة والاتحاد الدولي لمرضى السكري من ارتفاع نسبة الاصابة بمرض السكري في قطر خلال السنوات الأخيرة، خاصة للأطفال الاقل من 14 سنة، كما حذر الاتحاد الدولي من إصابة ربع المواطنين بالسكري بحلول عام 2030. وأمام هذه الحقائق يتبادر الى الذهن سؤال جوهري، عن جدوى الجهود المبذولة في مكافحة السمنة والامراض المرتبطة بها، وهل يجب علينا كحكومات وافراد ومؤسسات مجتمع مدني بذل مزيد من الجهود؟ أم تغيير الاستراتيجيات المتبعة لمواجهة هذه المخاطر؟. جهود وزارة الصحة العامة تبذل الدولة عبر وزارة الصحة العامة جهودا مضنية للحد من ظاهرة السمنة وخفض معدلاتها، إدراكاً منها لخطورتها على الفرد والمجتمع، حيث يتكبد العالم سنوياً 700 مليار دولار بسبب السمنة، وفي إطار تلك الجهود أنشأت الدولة مؤخراً المركز الوطني لعلاج السمنة التابع لمؤسسة حمد الطبية لتدعيم جهود مكافحة السمنة، في حين أجرى قسم جراحات الأيض والسمنة التابع للمؤسسة منذ افتتاحه في عام 2011، آلاف العمليات الجراحية التي تهدف للقضاء على السمنة كالتكميم وتحويل المسار وغيرها من التدخلات الجراحية، وفق أحدث التقنيات وآخر ما توصل له العلم في هذا المجال، إلا أن تلك الجهود يقوضها طوفان جارف من العادات الغذائية الخاطئة والنمط المعيشي المقاوم للتغيير. وأمام تلك المعطيات، وبالنظر إلى أسلوب الحياة الذي تعيشه المجتمعات الحديثة، وما يترتب عليه من سلبيات كثيرة أبرزها مرض العصر "السمنة"، نجد أن الكثير ممن يعانون من السمنة يلجؤون في محاولتهم للقضاء عليها لاتباع الحميات الغذائية والرجيم، حيث يتوقع أن يبلغ حجم السوق العالمي للحمية الغذائية بحلول عام 2024(253) مليار دولار، في مقابل ذلك خلصت دراسة أجرتها جامعة كاليفورنيا، الى أن معظم أنظمة الحمية القاسية تفشل في تحقيق هدفها، ووفقا للدراسة فقد بينت النتائج أن من يتبعون حمية غذائية يفقدون من 5 إلى 10% من وزنهم في أول ستة أشهر، الا ان ثلثي متبعي الحميات الغذائية استعادوا وزناً أكبر مما فقدوه خلال 4 إلى 5 سنوات. ولذلك يرى كثير من الخبراء والمتخصصين في مجال علاج السمنة أن التدخل الجراحي للقضاء على السمنة لا يعد خياراً ترفياً زائداً عن الحاجة، بل هو أمر ضروري وخيار مثالي كحل أخير للقضاء على هذه المشكلة، وحتى مع الأخذ بالاعتبار المخاطر المترتبة على التدخل الجراحي الا أن المخاطر المترتبة على السمنة والأمراض المرتبطة بها أكبر بكثير وينبغي النظر لها بجدية وعدم الاستهانة بها. ولكن قبل أن نحكم على التدخل الجراحي بأنه الحل الأمثل والطريق الأقصر لبلوغ الهدف المطلوب والولوج إلى عالم الرشاقة، ينبغي أن نطرح سؤالاً مهماً وهو: هل يعد التدخل الجراحي حلاً مثالياً ومستداماً للقضاء على مشكلة السمنة؟ وللأسف فإن الإجابة على هذا السؤال هي"لا"!، فعلى الرغم من أن التدخل الجراحي يساعد المريض للوصول الى هدفه المنشود، الا أنه لا يقدم ضمانة بأنه لن يعود لاكتساب ما فقده من وزن مرة اخرى بعد مدة في ظل استمراره بممارسة عاداته الغذائية الخاطئة، فالشواهد أمامنا كثيرة لمن أجروا عمليات التكميم وغيرها من الجراحات، ثم ما لبثوا ان استعادوا أوزانهم مرة أخرى، اذا ما الحل؟. تعد العمليات الجراحية الرامية للقضاء على السمنة وسيلة مساعدة وليست حلاً دائماً، فمع استمرار المريض بعد إجرائه للعملية في تناول الأغذية الغنية بالسكريات عالية السعرات الحرارية، والوجبات السريعة فضلاً عن عدم ممارسة الرياضة بشكل منتظم والاستمرار في اتباع اسلوب حياة سيئ، سيعود لا محالة الى سيرته الأولى، فالعملية الجراحية هي وسيلة تساعد مريض السمنة على تغيير نمط حياته الى الأبد وتحسين جودة حياته بشرط إدراكه لذلك ورغبته الجادة في تحقيق التغيير، ودون إجراء هذا التغيير والتعويل على الجراحة فقط فإن الجهود التي بذلها المريض مصيرها الى الفشل وستذهب سدى. وأمام تلك الإشكالية المعقدة والحلقة المفرغة، ينبغي علينا النظر لهذه القضية بجدية أكبر، ودعم الجهود التي تبذلها الدولة للقضاء على السمنة وخفض معدلاتها في المجتمع، وعدم القاء اللوم على مريض السمنة واعتباره سببا لما هو فيه وتصويره كشخص كسول يرفض الحلول المطروحة أمامه، باتباع حمية غذائية وممارسة الرياضة فقط بتلك البساطة، فالسمنة مشكلة عالمية منتشرة انتشاراً كبيراً وهي نتيجة حتمية لنمط الحياة الذي نعيشه، كما انها مرتبطة بأبعاد نفسية وسلوكية عديدة، ولذلك ينبغي تضافر الجهود لإيجاد حلول ناجعة لهذه المشكلة، والا تبقى جهودا متفرقة فهذا يبني وذاك يهدم. لابد ان تطرح وزارة الصحة العامة خطة وطنية متكاملة بالتنسيق مع كافة الجهات الرسمية وغير الرسمية، وإشراكها في وضع حلول جادة لهذه المشكلة وتنفيذها على ارض الواقع، وعدم الاكتفاء بالخطوات المتخذة لمواجهة الاستهلاك المفرط للأغذية المصنعة والأغذية عالية السعرات الحرارية والوجبات السريعة، خصوصا إذا ما اخذنا بعين الاعتبار النشاط المحموم والترويج المفرط لأنماط استهلاكية خاطئة، تعتمد عليها الصناعة الغذائية لتسويق منتجاتها، بجانب الدور السلبي الذي تلعبه وسائل التواصل الاجتماعي ومشاهيره في نشر ثقافة سلبية في التعامل مع الغذاء كوسيلة للمتعة والترفيه، لا كحاجة انسانية بيولوجية، وعلينا ألا نتوقع سهولة تغيير قناعات الأفراد وتصحيح تصوراتهم أمام هذه الهجمة العكسية الشرسة والمستمرة بمجرد القيام بتصغير البطون دون تغيير العقول. ينبغي إعادة النظر في الاشتراطات والمواصفات والمقاييس المتعلقة بالأغذية، فكثير من الدول الاوروبية على سبيل المثال، تصنف بعض المنتجات الغذائية على أنها أغذية غير صالحة للاستهلاك الآدمي، لذلك فمن الأجدر بنا لمكافحة شبح السمنة إعادة النظر في منتجات قد تكون هي السبب وراء جملة من الأمراض التي يعاني منها المجتمع. فضلاً عن ضرورة إعادة النظر في القوانين والتشريعات المتعلقة بالأنشطة التجارية المتخصصة في مجال الأغذية، وعدم قصر الرقابة الغذائية على جوانب النظافة والجودة دون تشديد الرقابة والتدقيق في مكونات المنتجات الغذائية نفسها ومدى ملاءمتها لنا وتأثيرها على صحتنا، هذا فضلا عن ضرورة إعادة النظر في الطريقة التي يتم بها التسويق والترويج للأغذية وعدم ترك الباب مفتوحاً على مصراعيه أمام الآلة الدعائية والحملات الإعلانية الشرسة، وترك الحبل على الغارب للمطاعم وشركات الأغذية لتطعمنا وتطعم ابناءنا ما يملأ جيوبهم دون تحمل مسؤولية تجاه ما يملؤون بطوننا به. وعلى سبيل المثال لا الحصر تقوم مطاعم الوجبات السريعة بإغراء الزبون بزيادة حجم الوجبة مقابل زيادة طفيفة في السعر، الأمر الذي يشجع على تناول مزيد من السعرات، وقد بينت دراسة امريكية أن السعرات الحرارية في البطاطس المقلية التي تقدمها مطاعم الوجبات السريعة احتوت في عام 1950، على 210 سعرات حرارية، في حين انها بلغت في عام 2003، 610 سعرات حرارية! والأمر كذلك بالنسبة للمشروبات الغازية، ولذلك فقد قامت بعض الدول بمنع مطاعم الوجبات السريعة من تقديم هذا العرض ومضاعفة حجم الوجبة، وقد يرى البعض أن هذه الخطوة تحد من حريتهم وتتدخل في خياراتهم، الا أن المخاطر التي تترتب على استمرار هذا الوضع أكثر جدية من مسألة حرية الاختيار، وخلال جائحة كورونا تم اتخاذ عدد من الاجراءات التي تحد من حرية تنقل الأفراد وتلزمهم بعدد من الخطوات، الأمر الذي يُعتبر مقبولاً بالنظر الى المخاطر التي تهدد المجتمع جراء انتشار الوباء، فسلامة المجتمع أكثر أهمية من حرية الاختيار لأفراده، والسؤال هنا هو: الا تعد السمنة أشد خطراً وأكثر فتكاً وأكبر تكلفة على الدولة؟ ما يحتم علينا النظر لهذه القضية بجدية أكبر، والقيام بإجراءات اكثر صرامة، وسن قوانين تحد من تغول مطاعم الوجبات السريعة واغراءاتها، سعياً للحد من انتشار السمنة والقضاء عليها قبل أن تقضي علينا.