15 سبتمبر 2025
تسجيللم أستغرب توقيع الرئيس الأمريكي (دونالد ترامب) على قرار نقل سفارة الولايات المتحدة من (تل أبيب) إلى (القدس)، في مشهد تمثيلي أوضحَ تحديه للعالم ولأخلاقيات التعامل الدبلوماسي مع القرارات الدولية. متجاهلًا مشاعر مئات الملايين من المسلمين في شتى بقاع العالم، كون (القدس) منطقة مُتنازع عليها، ولم تُحل قضيتها بين المسلمين والمسيحيين وبين اليهود. كان القرار صادمًا، جائرًا، واستعراضًا للقوة، ووقوفًا مع العدو الصهيوني، الذي أثبت عدم تسامحه مع الأديان الأخرى، وقيامه بأعمال منافية لحرمة الأماكن المقدسة، وتعريضه المصلين الفلسطينيين إلى مضايقات وصلت إلى حد إسالة الدماء والسجن بلا تهمة، وقت الصلاة في المسجد الأقصى، وفرض إجراءات صارمة لا تتناسب وقدسية المسجد، ما حرم مئات الفلسطينيين من الصلاة عدة مرات، بل وتقنين سن المصلين، في سابقة لم يشهد التاريخ لها مثيلًا. إن القرار الأمريكي يُضفي شرعية على قضية محل نزاع، بإعلان الرئيس الأمريكي القدس عاصمة أبدية لإسرائيل، لأن عملية السلام ما زالت قائمة وبرعاية الولايات المتحدة، التي يجب أن تكون طرفًا محايدًا في القضية، وأن القدس من المسائل محل النقاش في عملية السلام. ولقد انتقدت مجموعة من الدول الأوروبية هذا القرار واعتبرته مخالفًا للمواثيق الدولية. في هذا الصدد أعلن وزير الخارجية الأمريكي (ريكس تيلرسون) أن "أي قرار نهائي بشأن وضع القدس سيعتمد على المفاوضات بين الإسرائيليين والفلسطينيين"، مضيفًا: "إن الرئيس الأمريكي لم يُشر إلى أي وضع نهائي للقدس، وكان واضحًا بأن الوضع النهائي، بما في ذلك الحدود، سيترك للتفاوض واتخاذ القرار بين الطرفين". وفيما يبدو، أن هنالك حالة من عدم الاتفاق بين الرئيس ووزير خارجيته، حيث أعلن الرئيس صراحة أن نقل السفارة الأمريكية إلى (القدس) سيكون خلال ستة أشهر، وأن (القدس) عاصمة أبدية لإسرائيل. كما أن وزير الخارجية الأمريكي بدأ متشككًا من قول رئيسه، حيث أضاف: "إنه من غير المرجح أن تُنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى (القدس) هذا العام وربما حتى ليس العام المقبل. أم أنه نوع من اللعب بالألفاظ لامتصاص غضب الشارع الإسلامي". لقد فاجأ الرئيس الأمريكي العالم بهذا القرار، المخالف لكل القيم والأعراف وحقائق التاريخ والجغرافيا، لأنه لا يجوز لراعي السلام أن يتدخل في قضية محل خلاف بين طرفين يحاولان التوصل إلى صيغة سلام شامل وعادل ودائم للقضية الفلسطينية. ولقد تسربت معلومات مفادها أن قرار (ترامب) لم يأت من فراغ أو "هوجة" سياسية، بل إن الرجل قد تلقى الضوء الأخضر في الرياض خلال القمة الإسلامية العربية الأمريكية، وهو إجراء تم إقناع بعض الأطراف الخليجية به لتشكيل الشرق الأوسط الجديد، والذي سوف يغيّر الخريطة السياسية والجيوسياسية في المنطقة، وهذا ما اعترضت عليه دولة قطر، حسبما جاء في المصادر. وكان سعادة الشيخ محمد بن عبدالرحمن آل ثاني نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الخارجية قد أشار إلى أن ذلك القرار قد وضع علاقات الولايات المتحدة بالأمة العربية والإسلامية على المحك، وعَكَسَ عدم الإدراك لتأثيره وتداعياته الخطيرة، التي نحذر منها، والتي تزيد الوضع في الشرق الأوسط تعقيدًا. واصفًا سعادته ذاك الإجراء بأنه تصعيد خطير واستفزاز كبير لمشاعر الملايين من المسلمين والمسيحيين حول العالم، وانتهاك صارخ للقوانين والمواثيق والأعراف الدولية والشرعية الدولية وفي مقدمتها القرارات الصادرة عن مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة. وطالب سعادته مجلس الجامعة العربية بأن "يقوم العرب بواجبهم أمام الشعوب وأمام التاريخ للدفاع عن (القدس) وحمايتها من التهويد، مؤكدًا الوقوف إلى جانب الشعب الفلسطيني الشقيق ومساندة صموده للحصول على كافة حقوقه الثابتة والمشروعة وفي مقدمتها إقامة دولة فلسطين المستقلة وعاصمتها القدس". لستُ من الذين يحاولون "تأثيم" الآخر، أو المتباكين على اللبن المسكوب، لأن الولايات المتحدة، خصوصًا في عهد (ترامب) بدأت نهجًا مخالفًا للأعراف الدبلوماسية، ومثال ذلك ما قاله في أثناء حملته الانتخابية بأنه لن يسمح لأموال النفط أن تدار بالعقلية السائدة، وأعلن أنه سيأتي بتلك الأموال إلى الولايات المتحدة، ولقد تحقق له ذلك في قمة (الرياض) وعاد بأكثر من 400 مليار دولار. والرجل يُدرك مدى الوهن الذي يعتري العرب، والمسلمين عامة، بل إنه خلال وجوده في الرياض، استطاع أن يفتَّ في عضد العرب، وينشئ حالة من عدم الثقة بين دول المنطقة تمثلت في "شيطنة" دولة قطر، وبالتالي حصارها من قبل الدول "الأشقاء" بالإضافة إلى مصر. قد تحدث حوادث متفرقة في الولايات المتحدة ودول أوروبا كردة فعل للقرار الأمريكي (كما حصل في هولندا عندما قام رجل يحمل علم فلسطين بتهشيم واجهة مطعم يهودي في أمستردام)، وقد تسير مظاهرات كبرى في العواصم العربية والإسلامية، ولكن ذلك لن يغيّر واقع الحال، لأن العدو الصهيوني على مدى تاريخه منذ تأسيس الكيان عام 1948 على أرض فلسطين العربية، يقضم المزيد من الأراضي وبدعم أمريكي، وهو يدرك مدى ضعف العرب وعدم قدرتهم على الوحدة أو القيام بمبادرة مضادة، وأن "الظاهرة الصوتية" للعرب سوف تستمر حتى يُحكم العدو الصهيوني قبضته على الأراضي الفلسطينية بأسرها ويضع الفلسطينيين في مخيمات مسيجة بالحديد والنار، حتى يهاجر الفلسطينيون من ديارهم ويحل محلهم مستوطنون يدعمون بقاء إسرائيل. هذه حقيقة مجرى التاريخ مع العدو الصهيوني، ولن يهدأ بال هذا العدو ما لم يحقق حلمه في دولة من الفرات إلى النيل. وكثيرون من عقلاء العرب يعترف بأن هذا "الحلم" سوف يتحقق، لأن العدو يعمل ويخطط ويدرك قيمة التحالفات الدولية، وتأثير الولايات المتحدة على القرارات الدولية! وإذا كانت الولايات المتحدة جادة حقًا في إيجاد تسوية عادلة وشاملة ودائمة للقضية الفلسطينية، كان عليها إلزام إسرائيل بتنفيذ القرار الدولي رقم 242 الخاص بعدوانها عام 1967 على الأراضي العربية، بل إن العرب أنفسهم قد تقاعسوا عن متابعة تنفيذ هذا القرار، ولربما تناسوه مع مرور الزمن. هنالك دول عربية وإسلامية أدانت القرار الأمريكي، وأعلنت غضيها عليه، بل إن بعض الدول الإسلامية دعت المملكة العربية السعودية إلى وقف حربها مع اليمن، وتوجيه التحالف إلى (القدس) لتحريرها! ومع "عاطفية" هذه الدعوة، وعدم جديتها، إلا أنها سوف تهدأ وتتلاشى مع الزمن. أعتقد بأن هنالك اتفاقًا فرضته الولايات المتحدة على إسرائيل وبعض دول المنطقة من أجل تغيّر خريطة الشرق الأوسط، لتحقيق حلم اليهود بالوطن القومي الكبير، وفرض حالة جديدة في العلاقات بين إسرائيل وجيرانها، بما يضمن لها الاستقرار، حتى لو ذهبت الشعوب العربية إلى الجحيم. هنالك من يتخوف من اندلاع موجات غضب وعمليات إرهابية في الأراضي الفلسطينية وبعض الدول العربية، ولكن سيظل أثر هذه التحركات محدودًا، ولسوف تتوقف مع الأيام، لأن ردة الفعل دومًا لا تحقق ما يأتي عبر التخطيط ووضع الأهداف بصورة واضحة كما يقوم العدو الصهيوني بذلك. وإذا كان الإجراء الأمريكي الأخير يهدف إلى بسط سلام في الشرق الأوسط، بالتعاون مع بعض الدول العربية، فإن ذلك لن يكون على حساب الشعب الفلسطيني! وإن أي خطة للسلام يجب أن يكون الرقم الفلسطيني فيها حاضرًا، بعيدًا عن الضغوطات التي مورست وتمارس على القيادة الفلسطينية. إسرائيل لا تخاف من العرب، وهذه حقيقة، قدْرَ خوفها من إيران، والتقارب الجديد مع المملكة العربية السعودية والزيارات التي قام بها مسؤولون سعوديون إلى (تل أبيب) تهدف إلى قطع الطريق على إيران ومحاولة عزلها عن القضية الفلسطينية، كما تم ذلك مع مصر، ولا تستغربوا في القريب العاجل قيام علاقات دبلوماسية بين تل أبيب والرياض وبعض العواصم العربية من حماة الإسلام والمسلمين، ولا تستغربوا من ضياع القضية الفلسطينية، والتي كنا نرفع شعار (عائدون) على صدورنا منذ عام 1957 في طابور الصباح.