12 سبتمبر 2025

تسجيل

سيدة "هارلي ستريت"

13 ديسمبر 2011

أمام مدخل إحدى العيادات الخاصة بشارع هارلي ستريت الشهير بعيادات أشهر أطباء العالم، في وسط العاصمة البريطانية لندن، رفعت أصبعي لأضغط على جرس الباب، وبعد التعريف بنفسي من خلال آلة التحدث، فتحت لي فتاة شابة وأشارت إلى غرفة الاستقبال، وما أن وصلت أمام مكتب الاستقبال حتى ذهلت بالسيدة التي تعمل على تعبئة الأوراق الخاصة بالدخول، فقد كانت بلا مبالغة سيدة يتجاوز عمرها الثمانين عاماً، في أناقة شديدة، ترتدي قميصاً حريرياً أحمر لامعا مع ما يكمله من إكسسوارات فاخرة، أما وجهها فقد غطته تجاعيد شديدة كبيرة وصغيرة، وثنياث طوت فيها عمرا طويلا، كسته بألوان خضراء وحمراء ووردية، فأدخلت عليه ربيعا من صنعها. استقبلتني ورحبت بي بشدة، وأخذت تسألني وتملأ الورق بالبيانات بخفة ونشاط، بينما شعرت بأنني نسيت نفسي وأنا أنظر إلى وجهها ويدها التي ترتجف وتعمل بسرعة بإعجاب، ثم طلبت مني الجلوس في غرفة الانتظار، ولم تكتفي بالإشارة، بل قامت بتوصيلي إلى حيث الغرفة، فجلست في غرفة الانتظار بينما كانت كنحلة تتنقل بين الغرف، تبتسم وتمارس عملها بكل همة ونشاط، ومع إنني أكره لحظات الانتظار فإنني يومها لم أشعر بالملل، ووجدتني أضع خريطة لتوقعي لمسيرة حياة هذه السيدة وأتساءل، هل من وصل لهذه السن يستطيع أن يعود ينظر نظرة جميلة لما حوله؟ وهل يستطيع أن يعود يشعر بالفرح بعد عمر فارق فيه من فارق، ورأى فيه ما رأى من الألم والتعاسة في حياته؟ وهل هناك من يتحمل عنها بعض مسؤوليات الحياة وهي في هذه السن الكبيرة؟ يا ترى كيف تسير حياتها بهذا الترتيب لتكون منذ الصباح الباكر في كامل أناقتها وحيويتها، بينما لم أر ذلك في الكثير من شابات خلت حياتهن من أي مسؤوليات حقيقية. لكن البعض حقا هم من يصنعون تعاستهم بأيديهم، وهم من يقررونها على حياتهم، وتذكرت زميلة عرفتها يوما، كانت تمتلك الكثير، أو كما يقال وينظر له البعض بأنه من أساسيات السعادة والحياة الكاملة، فلديها المال والثراء، كما أخذت من التعليم قسطا كبيرا، وحصلت على شهادة جامعية، لديها بيت كبير وزوج طيب وأبناء أصحاء، ولكن ما لم تكن تمتلكه هو أهم من كل ذلك بكثير، فقد كانت لا تمتلك فن التعامل مع ما بحياتها من جمال، فقد كانت الشكوى هي أساس حياتها، تشتكي من زوجها ومن أبنائها، تشتكي من عملها ومن زميلاتها، ساخطة على كل شيء، تتوقع أنها ستكون فريسة الأمراض التي لابد وأن ستصيبها إن عاجلا أم آجلا، تنتقد الآخرين بشدة وتعتقد في الوقت نفسه بأن الجميع أفضل منها والأقدر على الاستمتاع بحياتهم والشعور بالراحة، وإن البلاد التي زارتها أسوأ بلاد، وإن المطاعم التي دخلتها هي أسوأ المطاعم، ومع ما تمتلكه من أموال فهي لا تمتلك شيئا، وإن الملابس التي ستقوم بشرائها لن تكون جميلة بالتأكيد! ومع إن هذه الزميلة في ريعان شبابها فإن الخطوط الكثيرة قد انتشرت في وجهها سريعا، ولم أعد أرى بها أي حيوية، وكثيرا ما كنت أحدث نفسي وأرثي لحال زوج هذه السيدة التي تقوم حياتها كلها على هالة من الطاقة السلبية والنكد الذي ينغص الحياة، ولا أنكر أنني أحيانا أتوقع في داخلي بأنني حتما سوف أسمع يوما بأن زوجها قد تزوج بأخرى هربا منها، فالحياة معها لا تطاق بلا شك. وعدت أنظر مرة أخرى لسيدة هارلي ستريت العجوز، وأكاد أجزم بأن حياتها لم تكن سهلة أبدا، ولم تحظ بالكثير مما حظيت به تلك الزميلة من حياة كاملة لا تستطيع أن تراها أو تتمعن فيها قليلا كي ترى كم هي سعيدة، وكم هي محظوظة، وإن هناك من الناس من استطاعوا أن يتجاوزوا تعاسات حقيقية وآلاماً كثيرة فقط لأنهم يريدون ذلك، يريدون أن يلمحوا السعادة ولو كانت بعيدة. نظرة لكل ما حولنا، وسنكتشف أن الكثير منه يستحق أن نصف أنفسنا معه بأننا..أسعد السعداء. [email protected]