12 سبتمبر 2025
تسجيلنبحث عن أشخاص تحركهم قضايا الأمة لا من يخضع لثقافة الاستهلاك المتلقي اليوم بين سندان التدفق الإخباري ومطرقة التحليل السياسي تشرشل كان داهية . . وبن سلمان لم ولن يكون مثله لا في الحرب ولا السلام على قادة الرأي العام اليوم مسؤولية كبيرة لحماية الوعي الجمعي للأمة كم مرة سمعت شخصاً يتحدث في موضوع واحد برأيين مختلفين في موقعين مختلفين ؟ كم مرة استمعت إلى الشيء وضده من نفس الشخص بتغير المكان والأشخاص أو تغير رأي سلطة أو جماهير؟. . مع انطلاق ثورات الربيع العربي، باتت السياسة تشكل الخبز اليومي للمواطن العربي، وهنا أتحدث عن المواطن العربي المهتم بقضايا أمته والحريص على وحدة بلاده ويشغله شأنها السياسي، لا أولئك الذين كلما طال موضوع قالوا « لقد مللنا من تكرار الحديث في هذا الموضوع» لأن أولئك الملولين أصابهم الضجر من كل قضايانا، فلسطين، الصهاينة، الربيع العربي، حصار قطر، جمال خاشقجي، فهو عاش وتعود على ثقافة الاستهلاك، ثقافة متابعة المسلسلات والمباريات التي تقدم له كل يوم أو أسبوع شيئا جديدا، ولم يتعود على الإيمان بمبدأ أو قضية يكافح من أجلها طوال حياته، وهو بالمناسبة المواطن الذي تريده أي سلطة في الوطن العربي، مواطن ملول، ينسى بسرعة، لا يريد إطالة الحديث في نفس القضية حتى لو كانت مصيرية، يبحث عن الترفيه فقط. وحتى وقت قريب كان الحديث عن السياسة في المجالس الخليجية «باستثناء الكويت» ضربا من الحرام، حتى جاءت أزمة حصار قطر فجعلتها حديثاً يومياً لا بد منه، وفي السابق كان الكثيرون يقولون «لا أريد أن أتحدث في السياسة، دعني بعيداً عنها» رغم أن جورج أورويل يقول: في عصرنا لا يوجد شيء اسمه بعيداً عن السياسة، كل القضايا هي قضايا سياسية. نعود لفكرة تغير الآراء، ونعود للربيع العربي، الذي شكل وعياً سياسياً كبيراً لدى المواطن العربي، وجعله يتسمَّر أمام شاشات التلفزة ونشرات الأخبار، وأعاد الحياة إلى القنوات الإخبارية بعد أن كانت تنطفئ وتتلاشى أمام موجة قنوات الترفيه. اليوم بات الجميع قادراً على أن ينشئ صحيفته الإلكترونية، كتابة مقال في السياسة، الظهور على الشاشات للحديث عن موضوع سياسي، أو تسخير حساباته في وسائل التواصل الاجتماعي للحديث عن قضايا سياسية، المشكلة الوحيدة تكمن في مستوى الجهل الذي ابتلي به صاحب هذا الرأي، أو طمع الشهرة الذي ابتلي به بعض آخر، لكن المشكلة الأكبر في تأثيرها على المتلقي الذي بات يقع بين سندان التدفق الإخباري للأخبار السياسية، وبين مطرقة التحليل السياسي المتسارع والمتسرع للأحداث. ولعل من أهم قواعد التحليل السياسي احترام التخصص، فالحديث في السياسة يقودك للتشعب في الإعلام والاقتصاد وغيرها من العلوم التي لا يقوم رأي سياسي دون ربط كل الخيوط اللازمة لبنائه وتكوينه. فالساسة الذين يقرأون خطاباً مكتوباً يكون تحليل كلماتهم مختلفا تماماً عن أولئك الذين كانوا يرتجلون خطباً ديماغوجية لساعات طويلة، فالذي يقرأ خطاباً مكتوباً ويلتزم به يرسل رسائل متعددة أدرجت في خطابه من مستشارين سياسيين واقتصاديين وإعلاميين ودبلوماسيين وغيرهم ممن يمسكون بملفات متعددة ذكرها الخطاب، بينما يقع الكثيرون في الأخطاء ممن يطلقون خطباً تعتمد على أدمغتهم غير المرتبة مثل العقيد معمر القذافي ودونالد ترامب. ولعل من أميز الساسة في التضليل السياسي كان ونستون تشرشل، رئيس الوزراء البريطاني في الفترة ما بين 1940-1945 ثم من 1951-1955 . وتشرشل هذا له قصتان من أجمل القصص، الأولى تمثل حجم الوعي الشعبي البريطاني، والأخرى تمثل دهاء تشرشل. في فترته الأولى قام تشرشل بقيادة الحلفاء أمام هجوم هتلر واليابان، وفعلاً حقق النصر الكبير في 7 مايو 1945 عندما أعلن هزيمة ألمانيا ووعد بهزيمة اليابان أيضا وحقق ذلك بعد أشهر قليلة، وفي خضم هذا النصر الكبير فشل تشرشل في أن ينتخب كرئيس وزراء للمرة الثانية، عندما قال له الشعب البريطاني كلمته التاريخية الشهيرة: من يصلح للحرب . . لا يصلح للسلام. تشرشل الداهية أيضا يذكر عنه أنه أراد يوماً كتابة خطاب سياسي لا تغضب منه المعارضة ولا يغضب منه مؤيدوه، وكان عليه إرضاء الطرفين، فكتب خطابه، ثم طلب من حلاقه أن يستمع إلى الخطاب قبل أن يخرج للجماهير، وفعلاً قرأ تشرشل الخطاب على الحلاق ثم سأله: ماذا فهمت، فقال الحلاق: لم أفهم شيء سيدي، فرد تشرشل: بالضبط، هذا ما أردت قوله، وخرج للجماهير وألقى خطابه غير المفهوم. نعود للتضليل والتحليل السياسي، اليوم مع أزمة حصار قطر وقبلها الربيع العربي، باتت القنوات والصحف التي تخصص مساحة للحديث في الشأن السياسي كبيرة، لذلك أصبحت الجرعات السياسية التي يتلقاها المتلقي كبيرة ومتعددة ومضللة، وفي ذلك أرى أن أحذر من بعض النقاط، لأني شاهدت بنفسي كيف أن بعض الأخبار أصابت الناس بالقلق، وكيف أن أخباراً أخرى جعلتهم يتحدثون في أشياء بصفة المتأكد بشكل مطلق، ولعل خير مثال على ذلك التحليلات التي قالت منذ اليوم الأول لوصول الرئيس الأميركي دونالد ترامب إنه سيغادر غداً كرسي الرئاسة، هي نفسها اليوم تقول منذ اليوم الأول لمقتل خاشقجي أنه ستتم الإطاحة بمحمد بن سلمان من ولاية العهد. لذلك علينا الحذر اليوم من ثلاثة أنواع من الحسابات في مواقع التواصل الاجتماعي أو حتى في واقعنا الحقيقي، وهي: الحسابات التي تعطي أكثر من رأي في نفس القضية وهي التي تحاول أن تفوز لاحقاً بجائزة التحليل الصائب، فتقوم بنشر كل أشكال وأنواع التحليل، فإن أصاب أحدها فإنها تقوم لاحقاً بمسح الخاطئ والتباهي بالتحليل الصحيح. الحسابات التي تقوم بالكذب والفبركة في ظن منها أنها بذلك تدافع عن قضيتها أو وطنها، بينما هي حسابات للأسف فاقدة للمصداقية، وتسبب قلقاً في الداخل مثلما تسببه في الخارج بسبب انتشار الكذب بسرعة، خاصة عندما يكون الخبر صادماً أو منتظراً. الحسابات التي تعتمد التضليل باستخدام اللغة، والتلاعب بالوعي، والتي يكون أصحابها على درجة كبيرة من المعرفة، فيقوم بإعادة إنتاج الوعي وفق ما يمكن أن يخضع عقل الجماهير لأيدلوجياته، ويسعى جاهداً لترسيخ الفكر الجمعي باتجاه أهدافه. لازلت مصراً على أن لا يلقي الناس بعقولهم لمحللي سناب شات وتويتر، لأنه من غير المعقول أن تبني رأيك في قضية ما على تعليق يقوله أحدهم في تغريدة أو سناب لشخص يتناول وجبة العشاء ويتحدث عن تأثير سيطرة الديمقراطيين على مجلس النواب وبقاء قوة مجلس الشيوخ في أقل من دقيقة. لبناء رأيك السياسي عليك استقاء الأخبار من مصادرها، قراءة تفصيل ما تبني عليه، فعلى سبيل المثال، نجد في الوطن العربي الكثير ممن يحللون الشأن الأميركي اليوم وهم لا يعرفون طبيعة المؤسسات الأميركية ولا نظام الانتخابات الرئاسية أو النصفية فيها. وكما أن المتلقي مطالب بالتروي ومتابعة الموثوق والرسمي، فإن على المحلل السياسي اليوم أن لا يقع تحت وطأة سرعة الخبر، فيبني توقعات على حسب رغبات الجماهير، أو يطرح آمالاً بناء على دوافع شخصية، بل عليه أن يتجرد من عواطفه ويصف الواقع وفق ما يتوفر من معلومات آنية للحدث لا وفق ما يتمنى هو أن تكون. أصبحنا في عصر تسيطر عليه وسائل الإعلام، حتى بات هناك من يقول إن التلفزيون اليوم يملك ريموت الإنسان وليس العكس، ولعل الإنسان العربي الأكثر عرضة للتأثر بحكم ميله للعاطفة على حساب العقل، ولعل ما قاله نعوم تشومسكي يوماً عن ذلك يناسب العقل العربي وما يتعرض له حيث قال: إن استثارة الانفعال العاطفي بدلاً من التفكير هي طريقة تقليدية تستخدم لتعطيل التحليل المنطقي، وبالتالي الحس النقدي للأشخاص .. كما أن استعمال المفردات العاطفية يسمح بالمرور إلى اللاوعي حتى يتم زرع أفكار به، ورغبات، ومخاوف، ونزعات أو سلوكيات. إن على الجميع اليوم مسؤولية كبيرة في حماية العقل الجمعي للأمة من الضياع، فقد وصلنا مرحلة يثق فيها المتلقي في الشخص أكثر من الوسيلة، يثق في تغريدة المذيع أكثر من ما يقرأه المذيع في نشرة الأخبار، وعلينا جميعاً أن نستغل كل القنوات المتاحة بكافة الطرق لإنتاج الوعي بكل صدق ونزاهة، فقد كان يشتكي في يوم من الأيام علماء الدين من انتشار السفيه والردئ على حساب العلم والقيم، وكان ذلك لأن أهل العلم رفضوا مجاراة أهل الجهل في استخدام أدوات العصر، وهذا ما أحذر منه اليوم كل ذو رأي ، وخاصة السياسي، بأن لا يعيش في برجه العاجي، ويعتقد أن منصته الوحيدة التي يبث منها هي ملتقى الباحثين عن المعرفة، في عصرنا اليوم، عليك أن تلهث خلف عقل المتابع في كل الوسائل، فإن لم تفعل، ستعيش وحيداً . . ولن تؤثر إلا في ظلك. [email protected]