09 أكتوبر 2025
تسجيلبمقارنة سريعة بين الأمس واليوم فيما يخص ربيع الثورات العربية، بعد مضي حوالي ثلاث سنوات على انطلاقتها، بدءا من عامي 2010 و2011، يتضح كم هو الفرق واسعا والبون شاسعا.. فعلى مستوى التحرك والطموحات فقد كانت الهمم في أوجهها، والأعناق مشرئبة للتغيير، لإنهاء عقود من الديكتاتورية، والانتصار لحرية وكرامة الإنسان، في مواجهة الظلم الذي تعرضت له المجتمعات والدول التي حكمت بواسطة العسكر وأنظمة الانقلابات، أما اليوم فقد خفّ وهج هذا الحماس، وأصيبت شرائح من الشعوب بالقنوط واليأس، وانكفأت على نفسها، لأسباب كثيرة.. وعلى مستوى الإنجازات والنتائج والمآلات، فقد شهد العامان آنفا الذكر حراكا ثوريا عارما في خمسة بلاد عربية، أفضى إلى رحيل رؤوس أربعة أنظمة (تونس، مصر، ليبيا، اليمن)، فيما يواصل النظام الخامس بـ (سوريا) مجازره وقتله للمدنيين ليبقى في سدة الحكم، بدعم روسي إيراني صريح، وبرضا أمريكي غربي ضمني ببقائه.. وبالتالي فإن قطار الثورات توقف عند سوريا، وجمد عندها، كما يظهر.. حيث لا تزال تتواصل الأزمة هناك دون أن تشهد دولة أخرى حراكا مشابها، وتوقف الحراك أو ـ يكاد ـ في دول شهدت محاولات تغيير مهمة كالعراق والأردن. ولم يقتصر الأمر عند هذا الحد، بل أجهضت الثورة بانقلاب في مصر، بما رافق ذلك من تهتك وانقسام في نسيج المجتمع المصري، ولا تزال تشهد الدول الثلاث المتبقية حالة من القلاقل، وترديا في أوضاعها الأمنية، فيما دخلت سوريا نفق التدخل الدولي بصورة فاضحة، وبخاصة التدخل الإيراني. مجمل ما سبق يطرح جملة تساؤلات لعل من أهمها: هل يمكن أن يتوقف قطار الثورات عند سوريا؟، وهل يمكن أن نشهد مزيدا من الانقلابات أو الانكفاء أو التراجع عن الثورات في الدول التي نجحت فيها، أو مزيدا من انقسامات مجتمعية فيها؟.. ثم هل تحمل الثورات وفكرها وحراكها وِزرَ كل ذلك، ومن المستفيدون مما سبق؟، وما الأهداف المرجوة من ذلك؟ وكيف يمكن لربيع الثورات أن يستعيد زمام المبادرة ويستأنف حراكه من جديد ويحقق مزيدا من التألق والنجاح؟ بالرغم مما يعتريها من عثرات وتحديات ومصاعب؛ فإن جذوة حراك الثورة العربية لا تزال متوقدة، وبخاصة في مصر لإعادة الشرعية، وفي سوريا حتى إسقاط النظام أو رحيله، لكن ما من شك فإن هناك تخوفات كبيرة من محاولة إيقاف قطار الثورات العربية، ومنعه من تجاوز سوريا لمحطة تالية، كما أن هناك تخوفات مماثلة من خلق مزيد من حالة الفوضى في المنطقة في الدول التي نجحت الثورات فيها، بغرض تبغيض الشعوب بالثورات أو من تكاليفها الباهظة، والقبول بحكم العسكر من جديد، باعتباره المنقذ والمخلص. ورغم الأخطاء التي وقعت أو بالإمكان أن تقع من الثوار المقاتلين أو الناشطين أو الأحزاب السياسية المعارضة التي وصلت الحكم أو تلك التي لا تزال في معمعة الحراك، والتي أثارت أو تثير انزعاج وكراهية شرائح من المجتمع، فإنه ما من شك بأن جهات خارجية، وقوى مستفيدة داخلية تقف وراء تضخيم هذه الأخطاء، وتتحالف سويا بصورة مشبوهة لإجهاض الثورات العربية وتشويه صورتها، وهذه القوى تتوزع على بقايا الأنظمة الحاكمة التي ثارت عليها شعوبها من جنرالات وأحزاب حاكمة ومصالح وقوى مستفيدة منها، أو تلك التي لا تزال تتشبث بالسلطة، وقوى محسوبة على الثورات (علمانية ويسارية) لكنها تحالفت بعد ذلك مع الفلول، بحكم ضعف شعبيتها في الشارع، وصعوبة وصولها عبر العملية الديمقراطية للحكم، أو معارضة مدجّنَة (معارضة بالاسم لا الفعل) متحالفة مع الأنظمة التي ثارت الشعوب ضدها، بحكم المصالح والمطامع أيضا، فيما ثبت فعليا أن القوى الغربية إما أنها وافقت على الانقلاب بمصر، أو رحّبت به ضمنا، أو سكتت على أصحابه في أقل تقدير، فيما أعطت موافقة لبقاء الأسد حتى الآن، بسبب حجج كثيرة منها: مكافحة الإرهاب، والخشية من وصول الإسلاميين وفي مقدمتهم الإخوان المسلمون، وضمان أمن حليفتها إسرائيل وغيرها. ما من شك بأن المنطقة العربية عموما، ودول الثورات العربية خصوصا، تمرّ بمرحلة انتقالية غير مستقرة، وتشهد مرحلة شد وجذب وصراع بين من يريدون إعادة العجلة إلى الخلف، وبين الذين يتطلعون للوصول بها إلى محطة الحرية والكرامة للشعوب.. والأمور مفتوحة على كل الاحتمالات بحسب سنة التدافع، وضغط وصمود كل طرف للوصول إلى الغايات المطلوبة، ولا جواب قطعيا وحاسما في هذه المسألة. ما نستطيع قوله إن الشعوب العربية امتلكت قدرة التمرد على واقعها وواقع أوطانها المزري، وهي بذلك قطعت نصف الشوط، وبقي أن تصمد، وألا تتراجع خطوة للخلف، وألا تصاب باليأس والقنوط، حتى تكمله.. أي أن عليها أن تثبت وأن تعرف أن طريق التغيير طويل ومحفوف بالشوك والتضحيات، وما طول المدة إلا لتتمايز الصفوف.. الخبيث من الطيب، وتتوحد المواقف والرؤى.. الثورة رافعة للتغيير، أما التغيير فيحتاج إلى فترة طويلة ودأب وصبر على الأذى، وأن تستعين بالعمل المثمر مهما قلّ، وألا تتوقف أو تلتفت للوراء، وأن تكون قبل ذلك وبعده مستعينة بالله واثقة بنصره، ممتلئة بالأمل، حريصة على نظافة يدها وسلوكها، بعيدا عن المطامع الدنيوية، معرضة عن أقوال المثبطين أو المرجفين أو المعطلين. وأخيرا ينبغي أن تستحضر في ذاكرتها أن كثيرا من الثورات حتى تتمكن من إحرازها لنصرها النهائي - سواء على المستعمر أو المستبد - احتاجت لعقود من الزمن ولملايين الضحايا والأثمان، والأمل بالله أن يكون الزمن والثمن أقل من ذلك بكثير.