30 أكتوبر 2025

تسجيل

(أبيها أبيها 1)

13 مارس 2022

في صباح ربيعي مشرق جميل خرج بوراشد من منزله بسيارته ذات الدفع الرباعي متوجها الى عمله كالعادة، وفتح المذياع ليستمع الى إذاعة القرآن الكريم ليشرح صدره ويشحن طاقته الايمانية بالذكر الحكيم، ولأن المنطقة التي يسكن فيها قد حوصرت بمعدات الحفر الثقيلة التي تعمل في مشاريع البنية التحتية فقد اضطر الى سلك طرق بديلة تجبره على المرور في الحواري والازقة الضيقة في بعض الأحيان، وفي هذا اليوم بالذات وجد نفسه يمر في طريق ضيق بين بعض المنازل ولفت نظره ان في اخر هذا الطريق يجلس رجل حاسر الرأس على الرصيف امام باب منزل وكأنه يمسك شيئا في يده ويحركه باستمرار باتجاه رأسه، استغرب بوراشد مما يجري فقرر ان يوقف سيارته على جانب الطريق الضيق والاقتراب اكثر راجلا لاستيضاح الامر، فهذه عادة المواطن القطري الذي اشتهر عنه النخوة وحب الخير ومساعدة المحتاج. وبالفعل اقترب بوراشد من الرجل الذي بدت هيئته انه في اواخر العقد الستين من العمر وقد اشتعل البياض في رأسه ولحيته القصيرة، وتفاجأ بأنه يمسك بيمينه "نعال زنوبه زرقاء" أجلكم الله ويضرب بها رأسه وهو يقول "أبيها أبيها" أي اريدها اريدها، هرع بوراشد مسرعا الى الرجل وأمسك يده وأخذ بتهدئته وهو يقول له "اذكر الله يا يبه مابه إلا الخير عسى ما شر وانا اخوك اذكر الله، افا والله عليك الدنيا من شلها حطها (مقولة شعبية تقال لتهوين الامور) تعوذ من ابليس واذكر ربك، علمني اشفيك (أي اخبرني ماذا حل بك)"، توقف الرجل عن ضرب رأسه والتفت لبوراشد وعيناه قد اغرورقت بالدموع وقال "يا ولدي اسمع قصتي وبتعذرني، انا خدمت في دائرة حكومية اكثر من 40 سنة ويا دوب وصلت سنير (أي درجة كبار الموظفين) في اخر أيام دوامي وقاعدوني عقبها (بعدها) ورضيت بأمر الله علي، وتوقعت اني برتاح بعد هل الخدمة الطويلة وباستمتع بما بقي من حياتي، ولكن جاتني الضربات على رأسي ورا بعض، أولها نهاية الخدمة اللي ما ادري شلون حسبوها، وحاولت معاهم يهديكم يرضيكم لكنهم طلعوني من الباب الشرقي (أي لم أحصل على ما أستحق)، وقلنا الله كريم هم ادرى واعرف وما جرى على غيري بيجري علي"، قال بوراشد "هذا قانون يا اخوي وإن شاء الله انه بيتعدل وبيراعونكم خل ايمانك بالله قوي وثق ان الحكومة تسعى لصالح كل المواطنين"، نظر الرجل لبوراشد نظرة غضب ثم قال "ما ادري اهفك بالزنوبة على جبهتك (أي اضربك) انت ليش ملقوف خلني اكمل كلامي"، هنا ادرك بوراشد انه من الحكمة في هذه اللحظات العصيبة التي يمر بها الرجل ان يلتزم الصمت والانصات ويدعه كما يقال "يفض فض" بما في خاطره لعله ان يرتاح ويكف عن إيذاء نفسه، فقال بوراشد "السموحة منك ياخوي قول كل اللي في خاطرك وأوعدك اني ماراح اقاطعك"، سكت الرجل لثوان قليلة ثم تنهد تنهيدة تنم عن زفرات ألم وحسرة ثم قال "بعد ما تقاعدت تفاجأت ان الراتب نزل رويسي (أي انخفظ الى القاع) لأن راتبي قبل التقاعد كان اكثره علاوات وبدلات ولما تقاعدت طبع خصموا كل هذا وبقيت على الأساسي والاجتماعية، وقلت في نفسي ان شاء الله بيكفيني وزود وبالفعل بديت أحاول اوازن بين مصروفات البيت والحياة اليومية والمسؤوليات ولكن كنك يا بوزيد ما غزيت (مثل يطلق على العمل دون الحصول على نتيجة او فائدة) يدوب الراتب يقضيني لآخر الشهر، فقلت لنفسي ليه ما ارجع اشتغل مرة ثانية في وظيفة في القطاع الخاص وراتب التقاعد مع الشغل الجديد راح يكفي ان شاء الله". لم يستطع بوراشد الصمت اكثر من ذلك فقال بأسلوب المدح والثناء "فكرة ممتازة" فرد الرجل بسرعة على بوراشد "ممتازة طل في ويه العدو (مقولة شعبية تقال عندما لا ينفع امر ما)". عزيزي القارئ؛ لماذا فكرة العمل كانت "على الطل (بلا فائدة)" ؟ وهل استطاع بوراشد تهدئة الرجل ورده الى صوابه؟ ام ان هناك مشاكل وعقبات أخرى لم يدركها بوراشد بعد؟ جميع هذه التساؤلات سنكتشفها معا في مقال الأسبوع القادم بإذن الله. @drAliAlnaimi