18 سبتمبر 2025

تسجيل

في نعي العربي الأخير

13 يناير 2020

هو أخير لتفرده في عروبته، هو أخير لتوهمه بأن ذلك سبيله الوحيد؛ حيث مصيره ومستقبله يبدأ منها ليعود إليها فلا مجال لأنصاف الحلول. هو أخير لاعتقاده بأن حضن العروبة كفيل بحمايته إلى الأبد ضد تقلبات الزمن وبني جلدته. هو أخير كذلك لأنه كان قادراً على معرفة أبناء مجتمعه، وعلى تعدادهم فرداً فرداً. هو أخير لأنه اتكأ على التاريخ وأسلم له أمره؛ فالتاريخ لا يعرف الغدر ولا المكر لديه، فآمن به كحافظ دائم ومستمر لمكتسباته. هو أخير لأنه ظن أن التعليم العروبي الموحد هو النبع الصافي لبناء الوطنية وصيانة الأمة. هو أخير لأنه افترض أنه لن يأتي اليوم الذي سيبحث فيه عن هويته في وطنه فلا يجدها. هو أخير لأنه لم يفكر ولو لبرهة أن موقعه سوف يتسع لغيره ولو كان على حساب عروبته. هو أخير لأنه وثق بأن المال لا يمكن له أن يسبق القيم الإنسانية. هو أخير لأنه اعتقد أن جغرافية الوطن لا يمكن لها أن تتمدد إلى الدرجة التي يصبح معها لا يرى بالعين المجردة. هو أخير لأنه ظن أنه عملة صعبة لا تتدهور قيمتها بمرور الزمن ما لم يتدخل البنك المركزي النخبوي لإنقاذها، وهو لم يفعل بالطبع. هو أخير لأنه أراد للحلم الجمعي أن يستمر ولم يدرك أن الأحلام كذلك أصابها التخصيص، والزمن أصبح فردي الطابع والإيقاع. هو أخير لأنه كان يرى ويطمئن بأنه لا ثمة حاجة للخوف من المستقبل فإيمانه بعروبته وبتاريخه وبأنظمته، كفيل بأن يواري سوءته ونقصه. هو أخير في تصوراته وأحلامه نحو وطنه وأمته، ولم يدرك بأن التاريخ حقب؛ وكل حقبة تحمل في طياتها شروط بقائها الخاصة بها دون غيرها. هو أخير لأنه كان يرى التاريخ خطاً مستقيماً يمكن البناء عليه، فاطمأن إليه وبنتائجه مستقبلاً. هو أخير لأنه راهن على عدم زوال أو اختفاء الطبقة الوسطى التي حملت وتحمل رؤاه وتطلعاته، ولم يدرك أن أمراض الرأسمالية المتوحشة تصيب الأطراف والوكلاء بدائها؛ حتى رغم عدم توفر شروط وجودها. هو أخير لأنه آمن بأن الأرض لا تزال تتكلم عربي ولم يدرك أن اختبار "التوفل" تفوق على فصاحة وحكمة أبي الطيب المتنبي وعبقرية المعري، وأن تراث بغداد والقاهرة وغيرهما تعادله مكتبة صغيرة في إحدى جامعات الغرب. هو أخير لأنه آمن وصدَّق شعارات المصير المشترك ولم يعِ أن البقاء للأقوى في عالم اليوم، وأنه من "سبق لبق". هو أخير لأنه اعتقد أن مكانته لدى أنظمته وحكوماته لها الأسبقية، وخيول تحرسها وجنود. هو أخير لأنه آمن بأنظمته وبشعاراتها ولم يعِ بأن النظام قد يتخلى عن دوره ليصبح وكيلاً يصرف البضائع كيفما يملى عليه. هو أخير لأنه آمن بأن العروبة والإسلام جناحان لطائر واحد، فإذا بالشعوبية والعصبية والقبلية تحولانهما لشيع وفرق وطوائف لا تكاد تحفظ أسماءهم من تعددهم وكثرتهم. هو أخير لأنه يمشي في جنازته رغم أنه لم يمت ولكن زمانه ورجال ذلك الزمان ماتوا، فشروط حقبته التاريخية انتهت؛ خياراً لا قصراً. ما يتخلق الآن في رحم العروبة الثكلى اليوم عربي من جنس مشوه مطواع لكل أمر لا يحمل من العروبة سوى جلبابها، فهو هوان على الدنيا بأكملها، لأنه فقد هويته، وما التاريخ سوى هوية ومغزى وهدف، فهو يعيش اليوم في ملاجئ الأيتام ينتظر من يتعرف عليه أو من يتبناه. يالها من فداحة تسطرها يد الأحفاد في حق التاريخ وفي حق الآباء. فلنقم سرادق العزاء ولنتقبل أحر التعازي في وفاة العربي الأخير إذا كان ثمة من يعزي أمة أضاعت بوصلتها بمحض إرادتها. [email protected]