16 سبتمبر 2025
تسجيلها قد رحل ترامب أو أوشك على الرحيل من البيت الأبيض، وأمام هذا الفرح العارم الذي اكتسح كافة الأوساط، والاهتمام المحلي والإقليمي بانتخابات ليست انتخاباته ورئيس ليس برئيسه، ستستمر الديمقراطية الأمريكية بكل تبعاتها بإلقاء ظلالها علينا، وشحذ هممنا متأثرين لا مؤثرين إلى أن نصحو من غفوتنا ونستوعب ما يجري لنا. والواقع، أنه لا انتخابات في العالم أجمع تحظى بالاهتمام، كما تحظى به الانتخابات الأمريكية من متابعة وترقب، وتبقى مظاهر الفرح والسرور التي عمت الأغلبية الساحقة من الشعوب العربية برحيل دونالد ترامب مبررة، لأن ترامب خلال سنوات حكمه لم يفسد الطبخة الأمريكية فقط، كما يعتقد البعض، بل إنه كشف بأريحية كيف تطبخ وما هي المكونات دون أن يكترث لانكشاف "الخلطة السرية الأمريكية" للجميع. ومع الأخذ بالاعتبار، ما يذهب إليه كثيرون من أن التغيير في الإدارة الأمريكية ما هو إلا قلب العملة على وجهها الآخر، إلا أن تداعيات رئاسة ترامب للولايات المتحدة خلال السنوات الأربع الماضية كان لها بالغ الأثر على الوضع في منطقة الشرق الأوسط برمته، وعلى العلاقات الدولية، ولعل نتائج الانتخابات الأمريكية قد جددت الأمل لدى الجميع في أن يكون رحيله كفيلاً بحلحلة بعض الملفات وحدوث انفراجات على المدى القريب. ومع فوز جوزيف بايدن بالرئاسة والذي يبقى مؤقتاً إلى أن يتم تنصيبه رسميا، أو أن يستسلم ترامب للهزيمة، لنا أن نتساءل عن مصير المخططات الأمريكية في الشرق الأوسط.. هل فشلت ولم تؤت أكلها وانكشف الغطاء عن الطبخة الترامبية؟ أم أن بايدن سيواصل العمل على تنفيذ هذه المخططات، وفق تكتيكات جديدة أكثر حذراً، في الوقت الذي نكون فيه تحت تأثير "التخدير العام" حتى يواصل العمل على تفتيتنا إلى دويلات رويداً رويداً دون أن نشعر؟. إن سياسة الإدارات الأمريكية المتعاقبة في إدارة علاقاتها الدولية خلال حقب رئاسية مختلفة تتمحور بشكل عام حول القوة والبأس، وأن تبقى أمريكا عظيمة مهابة الجانب في عيون الآخرين، وأن تضع قواعد اللعبة السياسية والاقتصادية والتجارية على الخارطة الدولية، ولتحقيق تلك الأهداف، تتبع تلك الإدارات المختلفة أساليب متنوعة وفقاً لخلفية الحزب الحاكم، بل وخلفية الجالس على كرسي البيت الأبيض، بمعنى أن السياسة الأمريكية الخارجية تلتقي في مصب واحد وأهداف إستراتيجية متشابهة ولكن وفق سياسات تنفيذية مختلفة، تغلف بغلاف دبلوماسي، وإدارة مراوغة، لا تكشفها سوى شطحات بعض المحافظين الجدد، على غرار زلة لسان الرئيس الأسبق جورج بوش الابن عندما وصف الحرب على أفغانستان والعراق بأنها "حرب صليبية"! ما يكشف جليا التوجه المسيحي الإنجيلي في سياسة المحافظين الجدد. في المقابل فإن ترامب ذا العقلية التجارية البرغماتية والدعم الشعبوي الكبير، قد هدم المعبد على من فيه، فهو لم يكترث بتغليف خطابه السياسي بمسوغات دبلوماسية ومصطلحات مهذبة، ولم يخف دعمه للأنظمة الديكتاتورية، الأمر الذي أغضب الكثير حتى من أعضاء إدارته، فضلاً عن ردود الأفعال العالمية من الأوساط السياسية والحقوقية تجاه سلوكياته. وعلى سبيل الاستشهاد، فقد اختزل ترامب، خلال فترة رئاسته، وبدبلوماسية فجة غير معهودة، حل مشاكل الشرق الأوسط بتعقيداتها، في "السلام مع إسرائيل" وفق وجهة النظر الأمريكية، بل وبالطريقة الإسرائيلية، ضارباً بالقرارات الأممية والهواجس العربية عرض الحائط، وظن مخطئاً أن القضية الفلسطينية لا تتطلب أكثر من حنكة كبير مستشاريه "كوشنر" الذي وسوست له نفسه إمكانية النجاح، ولم ير في الصراع العربي الإسرائيلي أكثر من "أزمة عقارية" يمكن حلها عبر عقد "صفقة" يصفق لها الجميع، والمثير في الموضوع أنه على الرغم من الجهود المضنية التي بذلها ترامب إرضاء للصهيونية العالمية وأمام الخطوات التي قام بها لتثبيت عرشه، فإنه لم يحظ برضا الصهيونيين، حتى مع اتباعه لملتهم، ولم يحصل على الدعم الذي كان يظن أنه يستحقه. أمام هذا الواقع، يأمل الكثير الآن أن يمثل انتصار بايدن أفول حقبة مظلمة، يتمنى الجميع ألا تعود بقرار من المحكمة، وحتى مع الإقرار بأن الولايات المتحدة ماضية في سياستها؛ إلا أن ترامب الشعبوي وسياسته الصدامية والتي ما تزال مستمرة إلى أن تنتهي فترة ولايته القانونية، أدخلت العالم في سنوات عصيبة، وتجربة مريرة، ومؤشر ذلك أن شركة الاتصالات الصينية "هواوي" اعتبرت انتصار بايدن انتصاراً لها! بعد أن تجرعت الشركات الصينية الويلات من سياسة ترامب. ولنا أن نقول في هذا السياق: إن الرأسمالية الأمريكية أدركت أن الصدام مع الصين لا يصب في صالحها، وأن ترامب بسياساته الصدامية يعرقل المصالح التجارية الأمريكية، ففرض الضرائب على واردات الصين قوبلت بخطوات مماثلة، والمنع والحظر للشركات الصينية كشف لواشنطن أنها لا تقوى على الاستغناء عن بكين، وان الاستهلاك الأمريكي الشره يفوق ما تنتجه آلته الرأسمالية، ما ينذرنا باتجاه العالم شئنا أم أبينا نحو التعددية القطبية التي تتزعمها الصين وتمهد لها طرقاً حريرية وأحلاماً وردية تنتشل دول العالم الثالث من تبعات تحمل تحقيقها للحلم الأمريكي. تعطينا سياسة ترامب في إدارة العلاقات الأمريكية أيضاً دروساً في أهمية تقوية الجبهة الداخلية لأي دولة لمواجهة التنمر الأمريكي، فدولة قطر استطاعت عبر التفاف شعبها حول سياسة متزنة وحنكة دبلوماسية، من مواجهة ادعاءات ترامب التي أطلقها في أحد مؤتمراته الصحفية في عام 2017 والتي اتهم فيها قطر "بدعم الإرهاب" مطالباً إياها "بالتوقف عن ذلك"، وقد تلاشت تلك التهم في النهاية، ليسارع ترامب باستبدالها بلهجة أخرى عندما أدرك أن قطر "الحليف في دعم جهود محاربة الإرهاب". تبين تلك الجزئية نوعية العلاقة بين واشنطن ودول المنطقة، وتكشف أن بإمكان تلك الدول رفض الانصياع للإملاءات والخضوع للتهديدات والفزاعة الأمريكية، وإنها قادرة عبر الإرادة السياسة والدعم الشعبي من قول: "لا"، وأنه ينبغي عليها أن تدرك أن هشاشة أي نظام من الأنظمة ينبع من داخله وليس بسبب استقواء الإمبريالية عليه، وأن الاستقواء عليه والتحكم في مصيره ليس سوى نتيجة وعَرَض للضعف والهوان وليس سبباً له. وأمام المواقف المتطرفة في عالمنا العربي في تقييم التجربة الديمقراطية الأمريكية، من الانبهار بها إلى الحط من فاعليتها والتدليل على ذلك بإفرازها لإدارة ترامب وصهره كوشنر، والتخبط في كثير من الملفات بجانب المنافسة المحتدمة على الرئاسة؛ إلا أننا لو نظرنا إلى الجانب الإيجابي في التجربة الأمريكية سنجد أن الشعب الأمريكي أثبت أنه قادر على التعامل مع ديمقراطيته البرجوازية، وقد تحمل مسؤوليته التاريخية في الاختيار وتكبد التأثيرات السلبية على ذلك الاختيار، وها هو يتحول بعد أربع سنوات عجاف من أغلبية داعمة للجمهوريين إلى تبني أفكار الحزب الديمقراطي وتنصيبه حزباً حاكماً ذا أغلبية، فلا أيديولوجية تحدد مسار الأفكار ولا كنيسة ترهب الشعب، وسيتحمل الشعب في كل الحالات نتيجة اختياره وسيقوم بما يمليه عليه واجبه الوطني بعد أربع سنوات. ولكن يجب أن ننتبه لأمر في غاية الخطورة، في هذه المرحلة التي يمر بها العالم؛ وهو أن الانتخابات الأمريكية أعطت مؤشراً غير صحي، تمثل في نجاح ترامب الشعبوي في حصد ما يربو على سبعين مليون صوت! ليبقى هاجس تصاعد الشعبوية واليمينية قائماً، وهذا يكشف لنا جلياً أن الديمقراطية لا تصنع بالضرورة إنساناً واعياً، وأنها يمكن أن تفرز نظاماً هزلياً على شاكلة شخصية "الكاوبوي" الأمريكية تخضع المؤسسات القائمة لأهوائه، ويؤثر سلبياً في الخطاب السياسي. ويبقى القول؛ إن مصيرنا، لا شك، سيتأثر شئنا أم أبينا بهذا المد الجارف، وأن العلاقات الدولية التي من المفترض أن تبنى على الكسب المشترك ستنحدر إلى مستويات لم نشهدها خلال العصر الحديث، فهل ستؤدي هذه الشعبوية الفجة إلى انكماش الولايات المتحدة ودول الغرب على نفسها وأفول نجمها الساطع ما سيسمح ببزوغ "نجوم" أخرى؟ وهل سيبقى عالمنا العربي يبحث عن مستقبله في قراءة الأبراج الصينية أو مراقبة نجم الدب القطبي، أم ما يزال هناك أمل في أن يلمع نجم سهيل اليماني من جديد؟.