20 سبتمبر 2025

تسجيل

في ظلال رحيل أبي المشروع النووي الباكستاني

12 أكتوبر 2021

كان أول لقاء لي مع عبدالقدير خان، أبي المشروع النووي الباكستاني، في أعقاب التفجيرات النووية الباكستانية في مايو/أيار 1998، التي أتت رداً على تفجيرات الهند النووية. لم تُفلح يومها جهود واشنطن الحثيثة، ترغيباً وترهيباً في ثني باكستان عن الرد، فقد كان الشارع الباكستاني يغلي، ويطالب بالرد على تفجيرات بوذا كما أسمتها الهند عام 1974، حينها ردّت حكومة نواز شريف المنتخبة بخمسة تفجيرات، مقابل ثلاثة تفجيرات هندية. كان لقائي مع خان مع مجموعة صحافية في بيته، الكائن مقابل تلال مارغالا، حيث بداية سلسلة جبال الهندكوس، لا يفصل بيته عن التلال سوى شارع واحد، شدّني يومها منظر القردة التي كانت تتقافز حول البيت، وهي التي تَفد من التلال المجاورة، لتأكل ما حرص عبد القدير خان على إطعامها إياه صباح مساء، مما شجعها على ارتياد المكان المُغري لبطونها، أكلاً وشرباً، أما داخل البيت، فقد كانت أقفاص الطيور والعندليب تحفُّ بالمكان، وحين سألْنا عن سبب حرصه على اقتناء الطيور، قيل لنا إن مصانع النووي ومعامله تزيد من توتر الشخص، والاعتناء بالطيور قد يساعد في تخفيف توتره. وهنا في هذه المناسبة الأليمة، أود أن أذكر في ظلال رحيله رحمه الله وتقبله، عدة زوايا ذات صلة: 1- شكّل المشروع النووي الباكستاني الذي كان بذرته عبدالقدير خان نواة أمن قومي باكستاني ملموس بين كل الأطراف الباكستانية، مدنية وعسكرية، معارضة وموالاة، كباراً وصغاراً، ولذا فإن المشروع الذي تبناه ودعمه بداية رئيس الوزراء في حينه ذو الفقار علي بوتو، تواصل على الرغم من تغير الحكومات والأشخاص والأحزاب. وستبقى الكلمة التي قالها بوتو خالدة: "سنأكل العشب لنحصل على الردع النووي"، رداً على تفجيرات الهند النووية الأولى عام 1974، ولم يُفلح تهديد وزير خارجية أمريكا القوي يومها هنرى كيسنجر في ثنيه عن قراره، وكان مما نقل عن كيسنجر قوله: "سنجعل منكم أمثولة إن أصررتم على المشروع". الانقلاب الذي قاده الجنرال ضياء الحق علي بوتو، لم يغير من قواعد اللعبة النووية شيئاً، وسار على نفس النهج حكومات عسكرية ومدنية ظلت وفية للمشروع، وداعمة له، حتى وصل الأمر برئيسة الوزراء الباكستانية السابقة بي نظير بوتو أن تساهم بنفسها في تهريب أقراص مدمجة، خلال زيارتها إلى كوريا الشمالية، وتعود بها إلى باكستان، تحتوي على معلومات حساسة عن صناعة برنامج الصاروخ البالستي الكوري. 2- تقلّبت حياة عبدالقدير خان بين الوطنية المفرطة لدى الباكستانيين، فأطلقوا عليه (مُحسن باكستان)، لإحسانه إليها بصنع القنبلة النووية، وبين الاتهامات التي طالته بشأن إفشاء معلومات نووية وبيعها لدول أخرى مثل ليبيا وإيران، وهو ما كلّف باكستان ضغوطاً أمريكية عام 2004 أيام مشرف، فتعرض للإهانة بإظهاره على التلفزيون الباكستاني معتذراً عما فعله، إرضاءً للأمريكيين، وقد نفى خان حيثيات اعتذاره بعد سقوط مشرف، ومع هذا يعتقد بعضهم أن وراء الإفشاء خطة باكستانية ذكية وبعيدة المدى، ترغب في نشر النووي بين دول عدة، كي لا يتم استفراد باكستان بالضغط الدولي على مشروعها النووي، فيتوزع الضغط على دول عدة، ولكن تبين أن كلاً من ليبيا وإيران اللتين تعاونت معهما باكستان، قد فضحتاها لدى الأمريكيين. شعر كثير من الباكستانيين بالإحباط وهم يرون أبا المشروع النووي الهندي أبو الكلام آزاد، يُكافأ بالوصول إلى أعلى منصب بالدولة رئيساً لها، بينما يتعرض مُحسن باكستان للإهانة، على التلفاز مباشرة أيام مشرف. 3- سيذكر التاريخ النووي الباكستاني كيف تمكن الجهاز الأمني الباكستاني على مدى عقود، من حماية أبي المشروع النووي ورفاقه، والآلاف من المهندسين المهمين في المشروع، ولم يحصل أن تعرض أحدٌ منهم مهما علا شأنه أو خفّ لحادث قتل أو خطف، بخلاف ماحدث في إيران في حماية أرشيفها النووي، يوم سرقت إسرائيل في عملية سرية عشرين طناً منه، فضلاً عن اغتيال أحد علماء إيران النوويين وهو محسن فخري زادة في شوارع طهران. 4- تمكن عبدالقدير خان من جعل باكستان قوة نووية بحمايتها من خصمها الهندي، وفوق هذا تمكن من حمايتها من أمريكا، يوم ثار النسر الجريح بسبب أحداث 11/9، ولولا قوتها النووية لكان وضعها ربما مختلفاً عما هي عليه. تحدّى عبدالقدير خان المألوف، وتحدّى الواقع، وتحدّى العالم كله، يوم حوّل هجرته إلى هولندا وعمله في معاملها النووية إلى منحة، فلم ينس بلده رغم هجرته، فسعى إلى نقل تجربته في هولندا، وجعلها انطلاقاً لمشروع كبير حمله إلى رئيس وزرائها بوتو في السبعينيات، الذي وافق فوراً على بناء قنبلة نووية باكستانية. رحل عبدالقدير خان رحمه الله بعد أن مكّن باكستان من امتلاك 165 رأساً نووياً مقابل 156 رأساً نووياً لخصمه الهندي. لقد جعل من باكستان أول وآخر دولة مسلمة نووية. ‏