17 سبتمبر 2025
تسجيللا شك أن الثقافة العربية تمر بأزمة لم يسبق لها مثيل في التاريخ الحديث! وتتمحور هذه الأزمة حول إشكالية إثبات المثقف نفسه لنفسه ولمجتمعه! ذلك أن الأجواء المحيطة بالثقافة تُدلل على أن هذه الثقافة آخذة في الانحسار، وأن التواصل الثقافي بين الجيل الماضي وجيل الشباب اليوم بات شبهَ منقطع، إن لم يكن " مأزومًا"، نتيجة سرعة إيقاع الحياة، وتراجع عادة القراءة، وشغف الشباب اللامحدود بأدوات التواصل الاجتماعي، لدرجة أنه لا يوجد لديهم الوقت الكافي للقراءة، مهما كان نوع هذه القراءة. وإذا ما استمرت هذه الأزمة، فإننا سوف نواجه بحقيقة انقطاع بائن بين تاريخنا وحضارتنا العربية وبين الأجيال القادمة. ناهيك عن الأفكار الجديدة، وبعضها يحمل دلالاتٍ واتجاهات سلبية تضّر بالشخصية العربية وأخلاقها، حيث تفصلُ الشخصية عن واقعها وتضعها في واقع افتراضي، فيما يتعلق بتراكم الخبرات وتنوع المعلومات. ونظرًا لشغف المجتمع العربي بأدوات التواصل الاجتماعي اللامحدود، فقد تراجع الاهتمام بالثقافة حاضنةً للتراث والتاريخ العربي، سواء كان ذلك داخل الأسرة، أم عبر وسائط الإعلام باتجاهاتها المختلفة وإداراتها الحكومية أو الأهلية! فلقد سيطرت النزعة الاستهلاكية في العديد من البلدان العربية على طباع الناس، ولم تكن ضمنها الثقافة وأدواتها، الأمر الذي وضع الأسرة في موقف قلق، وإيقاع سريع نحو اقتناء الجديد والمثير، وعدم التفكير بقضية القراءة، أو إثراء المعرفة، لأن معظم أدوات التواصل الاجتماعي تنشر التسطيح والتبسيط بشكل واضح، ما يدعم التوجهات الاستهلاكية التي يعيشها المجتمع العربي، ارتكازًا على السعي نحو تحسين الدخل في مواجهة متطلبات تلك النزعة الاستهلاكية. وبذلك لا توجد مساحة للتفكير بالقراءة والثقافة مظهرا عاما من مظاهر التحضر أو بناء الذات. وقد لا نتجنى على الحقيقة إن قلنا بأن الجيل الحالي جيل لا يقرأ، وهو بطبيعة الحال لا يكتب. فإذا كانت الطالبة في المرحلة الجامعية لا تقرأ (قمت بسؤال 25 طالبة في المرحلة الجامعية إن كُن يقرأن أي كتاب خلال عام كامل أم لا! وكانت الإجابة سلبية 100%) أي أنهن لا يقرأن أي كتاب! في الوقت الذي يقضينه "ساهرات" على أدوات التواصل حتى ساعات الصباح الأولى! وأي معرفة أو معلومات يتبادلنها عبر تلك المواقع أو تلك الأدوات؟ وإذا ما أتينا لبعض المساقات الجامعية التي تستلزم كتابة ورقة بحثية أو مقالية، نلاحظ أن أغلب هذا الجيل لا يتقن الكتابة العربية الصحيحة، حيث تنتشر الأخطاء اللغوية، وتُحشر الكلمات العامية في الورقة المطلوبة، وهذه نتيجة واضحة لكون معظم شباب اليوم يعوّل على لغة الاختصار أو لغة الأرقام، أو اللهجة المحلية في تداول المعلومات والأخبار عبر أدوات التواصل الاجتماعي. وهذا يهدد كيان الإدارات التي تدير الدول، حيث يتم توظيف هؤلاء الخريجين في وظائف مهمة بعد تخرجهم من الجامعة، دون أن تكون لديهم ميزة أو خبرة الكتابة الصحيحة باللغة العربية التي تفرضها الدولة . ناهيك عن أن بعض الطلبة والطالبات –الذين سيكونون قادة البلدان في المستقبل– يلجأ إلى شراء البحوث والأوراق من مكاتب متخصصة، ويدفع 500 ريال أو أكثر لقاء البحث.وهذا يُدلل على توجهات معظم الشباب هذه الأيام، بل قد يتواجد شاب ضمن أسرة فيها يكون الأب قارئًا نهمًا ولديه مكتبة عامرة، ولكن لا يدخل أيٌ من الأبناء هذه المكتبة، وهذا يُدلل أيضًا على انحسار عادة القراءة والتي هي من أهم أدوات الثقافة. فالقضية أساسًا قضية ثقافية في المقام الأول، ولا أعتقد أن أي جهة قادرة على إعادة القطار إلى قضبانه الصحيحة، لأن معطيات الحاضر تنبئ عن أن الإجادة والأصالة والتدقيق والتأني والبحث الدؤوب والتعمق والتحليل المنطقي كل ذلك ليس له مكان من الإعراب في لغة اليوم.ونأتي إلى دور المثقفين في المجتمع ونتساءل هنا: من المسؤول عن تهميش المثقفين؟ ولماذا؟لقد امتعضت العديد من الأنظمة العربية من دور المثقفين الجادين الذي يضعون الحلول لبعض مشكلات المجتمع، ولهم رؤى تنويرية في البناء السياسي والاقتصادي والاجتماعي في دولهم . حيث نجد حالات إقصاء واضحة لأدوارهم، إما برفض نشر مقالاتهم في الصحف، وإما بمنع كتبهم، وإما بعدم دعوتهم للندوات والمؤتمرات التي تقيمها دولهم؛ في الوقت الذي تأتي تلك الدول بمحاضرين ومفكرين من الخارج لا يزيدون عن المثقفين المحليين في شيء! وهذه إشكالية تتضح معالمُها في بعض الدول العربية، إذ يتم تهميش المثقفين المحليين المتخصصين بشكل واضح.