14 سبتمبر 2025
تسجيلكم مر على هذه الدنيا من حضارات؟ وكم تعاقبتها من أمم وشعوب؟ كيف بنيت تلك الحضارات؟ وكيف سادت الدنيا؟ وكيف انتهت وبادت؟ هل كان هذا بمحض الصدفة؟ أم بقوانين تحكم صعودها وهبوطها وبناءها واندثارها؟ إن القرآن الكريم يزخر بالحديث عن الأمم السابقة وعن حضاراتها، يفصل أحيانا ويوجز أخرى، لكنه يعرج عليها بين الفينة والأخرى فلا تكاد تخلو بضع آيات من مرور على ذكر قوم سلفوا أو حضارة بادت أو عهد مضى، والقرآن إن كان من وجوه إعجازه وإخباره عن مغيبات ستحصل فإن إخباره عن الأمم والحضارات السابقة وطريقة صعودها وهبوطها ليس ببعيد أيضا عن ذلك الإعجاز إعجاز القرآن يقول ابن خلدون رحمه الله تعالى: " إن أعظم المعجزات وأشرفها وأوضحها دلالة القرآن الكريم المنزل على نبينا محمد (لأن الخوارق في الغالب تقع مغايرة للوحي الذي يتلقاه النبي ويأتي بالمعجزة شاهدة بصدقه والقرآن هو بنفسه الوحي وهو الخارق المعجز فشاهده في عينه ولا يفتقر إلى دليل مغاير له كسائر المعجزات مع الوحي فهو أوضح دلالة، فهو الوحي وهو المعجزة " جميع العلم في القرآن لكن تقاصر عنه أفهام الرجال القرآن مصدر الفكر قلنا في مقالات سابقة إن الحضارة تتكون من فكر وإنتاج، والقرآن الكريم بالنسبة لنا هو المصدر الرئيسي للفكر، إضافة إلى السنة النبوية الصحيحة، ولقد أنزل الله تعالى القرآن الكريم وتحدّى به كل البشر، في كل زمان ومكان، ولا يزال التحدي قائماً أن يأتوا بمثل القرآن الكريم، أو بعشر سور من مثله أو حتى بسورة واحدة. ولقد حوى القرآن الكريم كثيراً من وجوه الإعجاز غير الإعجاز البياني واللغوي الذي تحدى الله تعالى به البشر جميعاً، ومن تلك الوجوه إعجاز القرآن الكريم في كشف قوانين الحضارة. تحدث القرآن الكريم عن بعض القوانين التي تحكم حركة الحضارات، والقرآن الكريم لا يستعمل كلمة " قوانين " بل يستعمل كلمة " سنن " نحو قول الله تعالى (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) آل عمران/137 السنن جمع سنّة، والسنّة تعني القانون الثابت الذي لا يتغير، كما قال ربنا تبارك وتعالى (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ) فسنن الله تعالى ليست نظريات تحتمل الصواب والخطأ، بل هي صائبة صادقة ثابتة، وضعها اللطيف الخبير، الذي هو أعلم بما يصلح لخلقه. تنوع السنن تتنوع السنن والقوانين في القرآن الكريم، فمنها سنن كونية، تحكم حركة الكون، مثل قانون الجاذبية، وقوانين الفيزياء والرياضيات. ومنها سنن أخروية: ترتبط بالفلاح أو الخسران يوم القيامة، ومن ذلك قول الله تعالى (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) فكل إنسان مسؤول عن تصرفاته، وكل نفس ظلمت نفسها بكفر أو شيء من الذنوب فإنما عليها وزرها، لا يحمله عنها أحد يوم القيامة. ومنها سنن تحكم علاقات الأمم بعضها ببعض، وسنن تحكم نشوء الحضارات ونهضتها وانهيارها وسقوطها، وهذا ما سنتناوله بعمق وتحليل وبيان. هذه السنن أو القوانين تأتي – أحياناً- في القرآن الكريم تعقيباً على قصة حدثت في الماضي، خاصة قصص الأنبياء عليهم السلام مع أقوامهم، وأحياناً تأتي في نهاية آيات الأحكام والتشريعات، وربما جاءت بعد الحديث عن مصير الإنسان يوم القيامة، من باب التوجيه لما هو مطلوب منا في هذه الحياة الدنيا. وسنن الله تعالى تتسم بالثبات والاطراد والعموم، فهي تنطبق على كل الحضارات، أنّى وجدت، وفي أي زمان وأي مكان. القوانين القرآنية للحضارات قرأت القرآن الكريم آية آية، باحثاً عن القوانين القرآنية المرتبطة ارتباطاً مباشراً بمشروع التغيير الحضاري، فوجدته لا يذكر الحضارات السابقة ذكرا خاليا من عبرة أو مجردا من قوانين ثابتة ترتبط بصعود وهبوط حضارة كل أمة، فتمر على الآيات من ذكر الأمم السابقة تجد فيها أو في ختامها قانونا يؤكد عليه الله سبحانه بأنه قانون لا يختل وسنة لا تتخلف، ومن القوانين التي مررت بها: 1) قانون التداول 2) قانون التدافع 3) قانون الغلبة والنصرة 4) قانون التغيير كل قانون من هذه القوانين له أدلته الشرعية، وله تطبيقاته الواقعية، وسيحتاج إلى مقال كامل وربما أكثر، وأنا حينما أتناول هذه القوانين أتناولها من رؤية إسلامية أصيلة وحكم قرآني واثق، وسأضم إليه فكراً علمياً دقيقاً يثبت الرؤية الإسلامية ويساندها، كل ذلك بلغة سلسلة بسيطة تفهمها غالبية الناس، العامي منهم والمفكر، فليس مشروع التغيير الذي نطرحه مشروعا خاصا بالمفكرين، ولا بأصحاب القرار وأرباب السياسة، بل هو مشروع كل فرد في قلبه ألم على هذه الأمة، ومسؤولية كل مؤمن يتمنى أن يرى حضارة الإسلام ترتفع وتعود مرة أخرى، ولعلنا في المقالات القادمة سنتناول كل قانون من قوانين الحضارة بتفصيل وبيان بمشيئة الله تعالى.