13 سبتمبر 2025

تسجيل

هل من ثورةٍ "مَنْزوعَةِ" العَسكر؟!

12 يونيو 2019

لم يهنأ العالمُ العربي بثوراته الست! وما زالت بعضُ الثورات تسير في اتجاهاتٍ بعيدة عن الأهداف التي قامت من أجلها، ولكنَّ الطالعَ السيء الذي رافقَ كُلَّ تلك الثورات أن العسكر قاموا باختطافها، وتبديدِ أحلامِ الشباب في ثوراتهم. ولقد جرّبت الشعوبُ العربية حُكم العسكر بدءاً من الثورة المصرية مروراً بصدام حسين، إلى معمر القذافي، إلى بشار الأسد، إلى علي عبدالله صالح إلى عبدالعزيز بوتفليقة، إلى عمر البشير، حيث بقي بعض هؤلاء الزعماء الذين قدِموا على ظهر الدبابة لأكثر من ثلاثين عاماً، على رأس الجيش وعلى صدر الشعوب، ولم تتحقق في بلدانهم 10% من الوعود التي أقسَموا على تحقيقها، ولم تنعم تلك الشعوبُ بالأمن، ولم تخفُّ الاحتقانات السياسية، ولم يتم إصلاحُ التعليم والخدمات الصحية، أو وقفُ بؤَر القلاقل والصراعات في تلك البلدان التي كانت عبئاً على الأمة العربية. ولقد جاءت التحالفاتُ الإقليمية – بأجنداتها المتعددة – كي تُضيفَ (لوغاريتمات) جديدة في عذابات الشعوب؛ حيث رجعت بعضُ هذه الشعوب إلى الوراء لأكثر من خمسين عاماً، رغم أنها ليست في المقدمة من الأساس، ومثال اليمن والعراق والسودان والجزائر، وليبيا، خير دليل على ذلك. من حقِّ السودانيين أن يثوروا، ويلفظوا (البشير)، وهذا هو شأنٌ سوداني، يُقررهُ السودانيون أنفسهم، وليس من حقِّ أحد أن يتدخَّل في أسلوب تعاطي شباب السودان في ثورتهم، أو «خطفها» على الطريقة العسكرية، كما حدث للثورات الأخرى. ونحن نتمنى أن ينعمَ السودانُ بدولةِ مؤسسات، ويعيشَ كُلًّ أهل السودان بتناغمٍ وديمقراطية، ويتحقق الأمنُ، ويعود المستقبلُ «المسروق» إلى أهله. لكن التمنيات في هذا الأمر تكون محفوفةً بالمخاطر، خصوصاً في ظل التدخلات الخارجية في الشأن السوداني، والذي لوحظ منذ بداية خطفِ العسكر للثورة. وكان من أفدح الأخطاء التي ارتكبها المجلسُ العسكري الانتقالي هو تحديد بوصلة الدبلوماسية السودانية ودرجة استقطابها (Polarization)، حيث قام ثلاثةٌ من كبار القادة العسكريين في المجلس الانتقالي بزيارة لمصر والسعودية والإمارات، حيث بانت وتحدَّدت ملامحُ التوجُّه في السودان، وهو توجّهٌ لم يختلف عن توجهات (البشير)، وفي اعتقادنا أن تلك الزيارات كانت سابقة لأوانها، وكان يجبُ ترتيبُ البيت السوداني من الداخل، في هذه المرحلة، لأن الالتزام بمثل تلك الاستقطابات لن يكون سارياً عندما ينتقل الحُكم إلى سلطة مدنية، أما إن كان عزمُ العسكر على مسك زمام الأمور للأبد، فذلك أمر آخر. وفي الوقت الذي أعلن فيه المجلسُ العسكري الانتقالي – يوم السبت الماضي – انفتاحهُ وحرصه على التفاوض للوصول إلى تفاهمات مرضية، تقود إلى تحقيق التوافق الوطني... بما يُفضي للتأسيس للتحوِّل الديمقراطي الذي هو هدف التغيّر والتداول السلمي للسلطة في البلاد، أعلنت قوى الحرية والتغيّر عصياناً مدنياً – يوم الأحد الماضي – وتلك إشارة واضحة لرفض الشارع السوداني لتوجهات العسكر، معلوم أن قوات الأمن قد تدخلت يوم 3 من الشهر الجاري لفضِّ الاعتصامات أمام وزارة الدفاع بالقوة، ما أدى إلى سقوط أكثر من 100 ضحية، ويقول بعضُ المحللين إن عدد الضحايا قد ارتفع إلى 500 ضحية. وذلك مؤشر قوي ومثير إن واصلت قوى الأمن تعرّضها التعسفي للمعتصمين، (كما أن شُحَّ الأخبار المصوَّرة التي تأتي من الساحة السودانية، يجعل الصورة ضبابية حول حقيقة المواقف في السودان)! رأى بعضُ المحللين أهميةَ تدويل القضية السودانية، وهذا أمر سوف يُطيل من عُمر العسكر، حيث تم عقد اجتماع ضم أعضاء في الاتحاد الأفريقي والاتحاد الأوروبي، والأمم المتحدة، والدول الأعضاء في مجلس الأمن (دول الترويكا الغربية)، يوم الخميس الماضي، لمتابعة الأحداث في السودان. كما قام رئيس وزراء إثيوبيا (آبي أحمد) رئيس الدورة الحالية لمنظمة (إيغاد) بعقد اجتماعات في الخرطوم – الأسبوع الماضي- مع أطراف الأزمة. وتلك إشارة إلى «أزمة ثقة» بين المجلس العسكري الانتقالي وتحالف الحرية والتغيّر، كما باعد من شقة الخلافات وقوع ضحايا في صفوف المحتجين، نظراً للجوء قوات الأمن إلى العنف. هنالك من يعتقد بأهمية الموقع الجغرافي للسودان، ووجود نهر النيل، والوعود التنموية، ما يمكن أن يجعل منه « قِبلةَ» الاستثمارات والتدخلات الخارجية، خصوصاً وأن دول الجوار تريد (سوداناً) آمناً ومستقراً، ولربما حديقةً خلفية لها، ما يُشكِّل دعماً لاستقرارها، ولكن إذا ما علمنا أن هنالك أكثر من 140 حزباً وأكثر من 70 حركة عسكرية، إضافة إلى التعدد العرقي والأيديولوجي، في هذا البلد الكبير، فإن الأمر سيكون أكثر تعقيداً. وبلا شك، فإن شعب السودان يضم الآلاف من المثقفين والمبدعين والسياسيين والاقتصاديين، وبعضهم في المنافي، وجاء الوقت كي يعودوا لإدارة مستقبل بلدهم، كما أن دراسة أخطاء الحُكم السابق، بكل مآسيه وجروحه، تحتّم أن تكون هنالك مكاشفة وشفافية في تناول جميع أزمات السودان. ولكن ما يجري هذه الأيام، يجعلنا نتشكَّك في قدرة الحكم العسكري في إدارة الشأن السوداني، ومساعدةِ الشعب في الخروج من عنق الزجاجة، والتهيؤِ لملاقاة المستقبل. إن حظْر التغطيات الصحفية، ومنعَ طواقم المحطات التلفزيونية – كما حدث مع الجزيرة – من الأخطاء الكبيرة التي تهدِّد ثورة السودانيين، لأن عقلية العسكر تتكئ دوماً إلى القوة والعنف، وبالتالي فإن مساحة الحوار ستكون محدودة بشأن مستقبل السودان، ولقد أوقفت أجهزة الأمن يوم السبت الماضي ثلاثة من قادة الاحتجاجات، بينهم القيادي في قوى الحرية والتغيّر (محمد عصمت) بعد مشاركته في المحادثات مع رئيس الوزراء الأثيوبي (آبي أحمد) في الخرطوم، كما قامت أجهزة الأمن باقتحام مقر المتحدث باسم الحركة (مبارك أردول)، واعتقلته، كما أكدت الحركة اعتقال أمينها العام (إسماعيل جلاب)، وإذا ما استمرت حركة الاعتقالات بهذا الشكل، فإن الانتقال السلمي للسلطة سيكون على محكٍّ كبير. ولقد نجحت عمليةُ العصيان المدني وتجاوب معها السودانيون، وهجَر الموظفون الرسميون والتجار وأهلُ المهن أعمالهم، كما شارك الطيارون وأطقمُ الطائرات وعُمال المطابع في العصيان المدني، وداهمت قواتُ الأمن المواطنين وهم يضعون المتاريس في الطرق، ونتج عن ذلك مقتل أربعة أشخاص، يوم الأحد الماضي. كما حمّلَ تَجمُّعُ المهنيين المجلسَ العسكري المسؤولية عن موت المرضى في المستشفيات العامة والخاصة. وزاد في إرباك الحياة في السودان حجبُ السلطاتِ العسكرية للإنترنت، ونتج عن ذلك خسائرُ ماليةٌ كبيرة، وعدمُ قدرة المواطنين على سداد فواتيرٍ حياتِهم اليومية. ولقد برز الخلافُ الأكبر بين المجلس الانتقالي وقوى الحرية والتغيّر حول الشروط التي تضعها الأخيرة، ذلك أن المجلس الانتقالي أعلن الدخول في الحوار دون شروط، ولكن قوى الحرية والتغيّر تُصرّ على تشكيل لجنة تحقيق تحظى بدعم دولي للبتِّ في أمر الاعتصامات، وأن هدف أية وساطة يجب أن يكون ضمان نقل الحكم إلى سلطة انتقالية مدنية، كما أعلن تجمّعُ المهنيين السودانيين تمسُّكهُ بالعصيان المدني الشامل، مُعتبراً أن العصيان خطوة نحو إتمام سقوط المجلس الانقلابي وتحقيق النصر. وكان متحدثٌ من (معهد واشنطن) قد أعلن أن ما يجري في السودان أمرٌ مروّع، ونظام إرهابي لقوات شبهِ عسكرية موالية للجيش. ونقل (سايمون هندرسون) ما نقلته (التايمز) اللندنية، عن اغتصاب نساء وطواقم نسائية طبيّة تحت شعار(إذا نلتَ من النساء، فقد نلتَ من الثورة)! كما تواصلت الخارجية الأمريكية مع نائب وزير الدفاع والأخ الأصغر لمحمد بن سلمان، وأبلغته عن « قمع وحشيّ» يشنّه المجلس العسكري الانتقالي ضد المحتجين. وبرز اسم (محمد حمدان دقلو – حميدتي) نائب رئيس المجلس العسكري، والذي التقى محمد بن سلمان قبل فترة، كقائد للقمع الوحشي، والذي تم التوصل بشأنه مع محمد بن سلمان. معلوم أن (حميدتي) قد اعتبرته مجلة ( أوريون 21) الفرنسية بأنه « مجرم حرب» وأنه يقف وراء المذابح في الخرطوم. الصورة ما زالت ضبابية في السودان! ولكن من حقنا – كعرب – أن نحلم بثورة على الأقل « منزوعة» العسكر، لأننا منذ سبعين عاماً من عُمر الثورات العسكرية لم نُحقق أي مكسب عسكري ولا اقتصادي ولا ديمقراطي! [email protected]