28 أكتوبر 2025
تسجيليتمّ تشويه جمال لغة الضاد في أيامنا على يد كثير من المحسوبين على طبقة الخطباء والمذيعين والمعلمين بسبب كثرة الأخطاء النحوية أو الإكثار من الحديث بالعامية أو سوء مخارج الحروف لديهم، وتنتهك حرمة العربية على يد كثير من المحسوبين على صنعة الكتابة من الصحفيين والكتّاب بسبب ركاكة الأسلوب وشيوع الأخطاء النحوية والإملائية.. وأكثر المتضررين من هذا التشويه هم الأطفال، لأنه ينعكس على ضعفهم في القراءة والكتابة والتعبير، وعدم ميلهم للمطالعة وتذوق لغتهم الأم.أعرفُ أن هناك أسبابا كثيرة تسبب انحسار اللغة العربية الفصحى عن حياة أجيالنا الصاعدة، لأن كلّ الأجواء المحيطة بهم تهوّن من شأنها، أو تدفعهم دفعا للهيام بغيرها، بقصد أو من دون قصد، ومن ذلك إعلاء شأن اللغات الأجنبية في واقعنا على حساب لغتنا الأم، سواء على مستوى التدريس الجامعي ـ وما قبله أحيانا ـ أو على مستوى العمل والطلبات التي تضع إجادة اللغة الأجنبية، وبخاصة الانجليزية شرطا للالتحاق بالوظيفة، دون أن تضع إجادة اللغة العربية بالمقابل شرطا لذلك، وثنائية اللغة بين العاميّة والفصحى، حيث تستخدم العامية الدارجة في البيوت والنوادي والمرافق الأخرى وغالبية شؤون حياتنا، فيما يقتصر استخدام الفصحى على مساحات ضيقة من واقعنا قراءة وكتابة وتحدثا، مثل المدرسة، وربما يقتصر ذلك على حصص العربية فقط، كما تستخدم العامية في العديد من وسائل الإعلام، وفي مواقع التواصل الاجتماعي، وشيوع " العربيزية" أو " الفرانكوعربية".. وهي خلطة غريبة تجمع بين العربية والإنجليزية بآن معا، يستخدمها الكثير من الشباب في حديثهم المتداول فيما بينهم، أو عند تعرضهم لذلك في حياتهم العامة أو عبر ما تنقله وسائل الإعلام إليهم. وأعرفُ أن موضوع إجادة لغتنا العربية بالسليقة والممارسة صار صعب المنال لأسباب كثيرة، كما أن مناهج اللغة العربية في مدارسنا ومنها النحو والصرف والإملاء لا تمكّن المتعلم بعد دراسة تمتد لعشر سنوات من التحدث بالفصحى، ومن تجرأ وتحدث بها منهم ستشكو كلّ حركات الإعراب من حديثه، حتى وإن تكلّم ببضع جمل قصيرة. تركيزنا على الخطباء والمذيعين والمعلمين والكتّاب والصحفيين ممن يسيئون للعربية أكثر من غيرهم في أحاديثهم أو كتاباتهم نابع من جملة أمور: ـ هذه الشريحة من الشرائح التي يفترض أن تكون مجيدة للغة العربية قراءة وتحدثا وكتابة بحكم طبيعة عملها وحرفتها.. وهي القدرة على التبليغ والتوضيح والتوعية والتعليم والإخبار بتمكن واقتدار، وبالتالي فإن عدم إجادة أدوات التعبير والكتابة يحدث خللا بيّنا في أداء مهمتها، على النحو المطلوب، أو يعد عيبا واضحا ومنفِّرا، وهو ما يؤدي إلى ضعف قدرتها التواصلية وتأثيرها في جمهورها الذي تخاطبه.. الأمر شبيه برجل يريد أن يكون من ضمن طبقة الفنانين والمغنيين لكنه يمتلك خامة صوت قبيحة. ـ أخطاء هذه الشريحة لا تتوقف عندها، بل تتجاوزها للمتلقين من مستمعين وقراء، خصوصا الأطفال، وهو ما يؤدي إلى التعوّد على الأخطاء، واعتبارها صوابا، وشيوع الأخطاء النحوية والإملائية عند الجمهور في تحدثهم وكتاباتهم، وبالتالي حدوث تشويه ممنهج لنسيج لغتنا العربية الجميلة.ـ ولعل مما يزيد خطورة تشويه جمال لغتنا العربية أن من يسيئون إليها هم على ثغرة مهمة لأن الأجهزة التي يتبعون لها تحظى بأكبر حضور جماهيري ومتابعة شعبية، ونقصد هنا ملايين الطلبة في المدارس والجامعات والمعاهد وعشرات الملايين من متابعي القنوات التلفزيونية والإذاعية، والملايين من يستمعون لخطب الجمعة، أو يقرؤون الصحف ويتابعون المواقع الإلكترونية. وأخطر هذه الأجهزة على الإطلاق هي المحاضن التربوية والتعليمية التي لا يتحدث المعلمون فيها إلا بالعامية الدارجة غالبا، أو بالعربية الفصحى المليئة بالأخطاء النحوية مع سوء في مخارج الحروف، ويزداد الطين بلة مع كثرة الأخطاء التي تزيّن كتاباتهم.. الأمر الذي يؤدي إلى إفساد الذوق اللغوي عند الأطفال، نظرا لأن الطالب يقلّد معلمه، ويتشرب أخطاءه عند التحدث أو الكتابة أو التعبير. والنتيجة هي الحصاد المر الذي نعايشه واقعا ملموسا في إعراض الناشئة والشباب عن لغتهم والنفور منها، وضعفهم الواضح في التعبير والكتابة، وعدم القدرة على التحدث بالفصحى، أو الرغبة في المطالعة، أو الإحساس بروعة جمالها سواءً لجهة قراءة نصوصها الشعرية أو النثرية. إن خطورة دور هذه الشريحة تحتاج من القائمين على هذه المؤسسات المتصلة بالتربية والتعليم والإعلام والأوقاف ما يلي:ـ التشديد على عدم قبول من لا يجيد العربية الفصحى قراءة وتحدثا وكتابة وتذوقا.. وعدم التساهل في هذا الأمر.ـ مواصلة تأهيل العاملين في هذه المؤسسات وإخضاعهم لدورات تدريبية ترتقي بمستواهم اللغوي والأدبي وتذوق جماليات اللغة العربية. ـ إعطاء درجات مهمة للتقييم الوظيفي في هذا الجانب، وتحفيز العاملين الذي يحققون المعايير المطلوبة التي ترتبط بذلك.وعلينا أن نتذكر مقولة ابن خلدون دائما ونضعها نصب أعيننا: "قوّة اللغةِ في أُمّةٍ ما، تعني استمرارية هذه الأمّةِ بأخذِ دورِها بينَ بقيّةِ الأممِ ؛ لأنِّ غلَبةَ اللغة بِغلَبةِ أهلِها، ومنزلتِها بين اللغاتِ صورةٌ لمنزلةِ دولتِها بين الأمم".