12 سبتمبر 2025
تسجيلفي إحدى بوادي بلاد الشنقيط، في أقصى غرب عالمنا العربي المترامي الأطراف جلس محمد وابن عمه بين يدي معلم القرآن في خيمةٍ من الوبر مفترشين حصيرًا من الخوص وفي يد كل واحدٍ منهما لوح خشبي يصنع غالبًا من شجرة السدر، أما القلم فمن خشب شجرةٍ تسمى «السبط»، حيث تسن مقدمته بشكل مائل، وتقوم الأمهات غالبًا بصناعة الحبر من الفحم والصمغ العربي وقليل من السكر والماء، يكوّن الخليط مادة سوداء توضع في دواة من الحجر المجوف وتستخدم للكتابة. يكتب الطالب الآيات المراد حفظها على اللوح تحت إشراف المعلم، ويبدأ في ترديد الآيات حتى يحفظها عن ظهر قلب بالتكرار، وفي اليوم التالي يغسل اللوح بالماء قبل أن يتوجه للمعلم لأخذ درس جديد، هكذا كانت حياتهم وما زالت حتى يومنا هذا. وبالرغم من شغف العيش وقلة الموارد وبساطة الحياة إلا أنها شكلت أرضًا خصبة للعديد من العلماء والمبدعين والأدباء والمثقفين، وما ذاك إلا تجسيدًا لأصالة وعمق الموروث الحضاري للشعب الموريتاني. وحتى لا نذهب بعيدًا عن بطل قصتنا، محمد الشنقيطي، فبينما هو وابن عمه عند المعلم يكتبان الآيات على اللوح، نفد حبر محمد قبل أن يفرغ من كتابة الدرس، فطلب محمد من ابن عمه شيئًا من الحبر كي يكمل كتابة الآيات على اللوح، إلا أن ابن عمه، ولسبب ما، رفض أن يعطيه، والمعلم يراقب الحدث دون أن ينبس ببنت شفة. انتهى الدرس وعاد محمدٌ إلى بيته وقد تمكن الحزن من محياه، كانت أمه كعادتها في انتظاره لدى الباب، وما أن رأها حتى أجهش بالبكاء شاكيًا ابن عمه الذي خذله في ذلك الموقف، فما كان منها إلا أن ضمته إليها وهدأته محاولةً إصلاح ذات البين والتماس العذر لابن عمه، ووعدته أنها ستعالج الأمر. وفي صباح اليوم التالي وقبل أن يتوجه إلى المعلم، أعطته دواته وقد ملأتها بالحبر ودواة أخرى مليئة بالحبر أيضًا قائلةً له «أعط هذه لابن عمك»!، موقفٌ لم يتوقعه محمد من أمه ولم يستوعبه، لكنه يثق بحكمتها. انطلق محمد إلى خيمة المعلم، وما أن وصل حتى دفع بالدواة المليئة بالحبر، كما أوصته أمه، إلى ابن عمه على مرآى ومسمعٍ من المعلم الذي عبَّر عن دهشته من الموقف أن التفت للآخر قائلًا له «لقد قتلك»، وهو تعبير يختزل الكثير من المعاني، وكأنه يقول له لقد اختار محمد مكانه في الثريا بحسن صنيعه وترك لك الثرى وشتان بين المكانين. تلك الحكمة الشنقيطية تبين لنا أننا عندما نتسامى بأخلاقنا في بعض المواقف قد نحقق من الأهداف ما لا يمكن تحقيقه بالانحدار إلى سفاسف الأمور والمصادمات التي تستنزف طاقاتنا وتخدش مبادئنا، قال تعالى «يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا».