18 سبتمبر 2025
تسجيللم تتخيل المصاحف وأمّهات كتب الحديث والتفسير البياني والبلاغي للقرآن الكريم ولم يتخيّل ابن هشام وأبو حيّان التوحيدي ولا الرافعي أن يجدوا أنفسهم في أقبية المساجد أو مخازن الأحياء السكنيّة! الهجرة المعرفية والتيارات التغريبية أسلمت كتب أجداد بعض الأسر إلى غبار الزمن حتّى طالت طبعات قديمة في التفسير البياني للقرآن مثل (تجريد البيان لتفسير القرآن) وكتب السير مثل سيرة المصطفى (هذا الحبيب) لأبي بكر الجزائري، وتقارير نقديّة قديمة عزّ الحصول على نسخ منها اليوم مثل تقرير الرافعي على حاشية ابن عابدين.. كلّها كتب - أثناء صلاتي في أحد المساجد - وجدتها تئّن وجعا والغبار يعلوها وهي ملقيّة في قبو تحت سلالم بعض المساجد، لم تجد حتّى أرففا تليق بها ولا نظاما يدويا أو إلكترونيا معرفيا يتيح للمسجد وإدارته الانتفاع بها أو تثقيفيا ينفع أهل الحيّ منها. ربّما تبرعت بعض الأسر بكتبها للمسجد ظنّا منها أن كلّ من يقوم عليه سيعرف قيمة الكتاب. الكتب لم تكن مصاحف فحسب بل أرشيفا معرفيا، وربما يكون ما لم أره أكثر من ذلك! ولا نعلم ما هي سياسات وزارة الأوقاف والشؤون الاٍسلامية؟! وما مدى التنسيق بينها وبين وزارة الثقافة خصوصا وأن الأخيرة مشكورة وضعت إعلانات في أعمدة الشوارع تدعو فيها الأسر إلى تزويدها بالكتب غير المرغوب فيها للتدوير، ولكن هل وصل النداء المُكلِف؟ وهل وجدت الشوارع القطريّة في زمن المنصات الرقميّة آذانا صاغية؟ ربما لا !!! خصوصا بعد مشاهدة كتب في أقبية! لننطلق بشكل أعمق من التنسيق بين الوزارتين حيث كانت القراءة والكتب والمكتبات جزءا لا يتجزأ من ثقافة الأسر في قطر... وبينما استمرت بيوت البعض في الحفاظ عليها سواء في أرشيفها أو في ممارساتها وعاداتها... غادرت بيوت البعض في ألم حيث لا رجعة. وهنا نسأل وزارة الثقافة أيضا عن المكتبات العامّة لكلّ مدينة التي لم نعد نذكر منها إلا الاستعارة باشتراك عند كتابة البحوث الجامعية وسط الغبار المتراكم على كتبها عبر الزمن، والتي ما زالت تعاني من سوء تحديد مواقعها في بيوت حديثة مستأجرة داخلية وهي التي كان يتوقّع منها تحويلها إلى منارات فكريّة في مداخل كل مدينة أو أجمل مناطقها مع تخصيص مقاهٍ خاصّة فيها تحاكي لغة الزمن وترادف مفهوم المقهى واحتساء القهوة مع القراءة والكتب والبحث. ففي الوقت الذي رمّمت فيه مدن بأكملها في الوكرة والخور والشمال، لم تجد كتب (ابن جنّي) ولا (الجاحظ) ولا حتّى شعر (شوقي وحافظ) ولم تجد (ألفية ابن مالك) التي أسماها العرب (أقرب المسالك) طريقها القريب إلى بيت عريق! ولم تجد الثقافة حظا يحاكي الأسواق الثقافية والفكريّة القديمة مثل (عكاظ) و(دومة الجندل) التي كانت في ذاتها حركة فكرّيّة. ربما حرّي بنا هنا أن نشرك المكتب الهندسي الخاصّ أيضا الذي حوَّل المدن الساحلية إلى مدن تراثية تحاكي صورتها الأصلية عبر الزمن، والتي نجحت في الشكل وما زالت تترنّح في المضمون. ورغم سعادتنا بركوب الخيل وجولة المطايا اليوميّة إلا أننا حزنّا من مغادرة بعض البرامج الثقافية التي كانت تقدّم لقطر مثل مركز (احتضن قطر)، ناهيك عن أن نسأل عن موقع للكتب والمكتبات الثقافية من الإعراب! فتركت وراثة الكتب والتشجيع على القراءة فيها وفق اجتهاد صاحب كلّ مقهى من مقاهي السواحل وفي بعضهم الخير مشكورين، فغاب الهدف مع تركيز التسمية للمدن التراثية على المضمون الربحي المادي لتحصيل الإيجارات من المستأجرين لا الربح الاجتماعي التنموي معه. وما دمنا في بداية رمضان، نطمح من وزيري الثقافة والأوقاف بزيارة لكلّ مساجد الدولة للعمل تنسيقيّا بين وزارتيهما لينفضوا عن الكتب غبار الزمن ويعيدوا موروثا اجتماعيا تجد فيه مكتبة الحيّ من إهداءات أبناء رجالات قطر أيضا ولادة جديدة بل وتنافسّية. وما دامت مكتبات الحيّ ضرورة فكرية وثقافية واجتماعية وأمنيّة في زمن التيّارات التغريبية دعونا لا ننسى دعوة رئيسة متاحف قطر لزيارة أسواق المدن التراثيّة لتحقّق فيها النجاح الباهر للحركة الثقافية والتمكين الشبابي الذي حققته في الدوحة والمناطق الأثرية لتطلق فيها مواهب أبناء الأحياء وشغلهم فيما ينفعهم ولإعادة الروح في موروثات آبائهم الفكريّة والتراثيّة بأفكار إبداعية جديدة خصوصا وإن البنية التحتيّة لهذا المشروع تنعم بجاهزيّة كبيرة. فالقراءة مخ الفكر والكتب ثروة تنتظر في قطر ثورة غير مسبوقة في تنسيق الجهود وكيفية الاستغلال الأمثل لمدن السواحل في مواقع إستراتيجية لتتجاوز الهدف التجاري فقط كونها (محط الأرجل) في تحوّل فكري (محطّ العقول) وثقافي (محط الأنظار) جنبا إلى جنب مع التحوّل الاجتماعي (محطّ الكيف). فعندما تكون الثقافة فنّا وأسلوب حياة لن يعرف الغبار إليها طريقا.