14 سبتمبر 2025
تسجيلكثيراً ما تتشدق الدول الكبرى المتقدمة وفي مقدمتها دول الاتحاد الأوروبي بعبارات ضخمة فخمة كالشفافية والإفصاح ومكافحة الفساد والحوكمة والخطط الإستراتيجية والإدارة الرشيدة.... إلا أن الأمر على أرض الواقع العملي يعكس شيئا مختلفا تماماً، حيث أظهرت نتائج أحدث استطلاعات الرأي الأوروبية التي أجراها المكتب الأوروبي للاستطلاع "يورو باروميتر" أن أكثر من 75% من المستطلع آراؤهم بدول الاتحاد الأوروبي يرون أن الفساد بدول الاتحاد أصبح يمثل ظاهرة واسعة الانتشار.وأظهرت نتائج الاستطلاع كذلك أن أكثر من 50 % من المبحوثين الذين تم استطلاع أرائهم أكدوا أن مستويات الفساد قد ارتفعت ببلادهم خلال السنوات الثلاث الماضية، كما أفاد شخص واحد من بين كل 12 فردا أوروبيا "من الذين أُجري عليهم الاستطلاع" على أنه قد شارك بالفعل في عملية فساد في العام الماضي أو كان على الأقل شاهداً على إحدى هذه العمليات.هذا وقد كشف تقرير صادر عن المفوضية الأوروبية في شهر فبراير الماضي أن فاتورة الفساد الأوروبية تكلف الاقتصاد الأوروبي سنوياً نحو 120 مليار يورو أي أكثر قليلاً من 160 مليار دولار، وذلك رغم الإجراءات والمحاولات التي اتخذتها عدداً من دول الاتحاد الأوروبي لمكافحة الفساد بها في السنوات الأخيرة، مع التسليم باختلاف طبيعة الفساد من دولة لأخرى وكذا مستوى الفساد والتدابير المتخذة لمكافحة هذه الظاهرة.وأكد تقرير المفوضية الأوروبية على أن المشتريات الحكومية كانت هي الأكثر عرضة لعمليات الفساد، بالإضافة إلى إدارات الضرائب وشركات البناء وعمليات الخدمات والرعاية الصحية... ورغم تأكيد التقرير على أن شركات البناء تعد الأكثر تعرضاً للفساد، إلا أنه أكد كذلك على أن نسبة تصل إلى 33% من الشركات العاملة في مجال الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات تعانى أيضا من هذه الظاهرة، كما أن أكثر من 30% من الشركات المشاركة في مناقصات القطاع العام تدعى بأن الفساد قد حرمها من الجانب الأكبر من أرباحها المقدرة.ومع تزايد معدلات الفساد في السنوات الأخيرة بالعديد من دول الاتحاد الأوروبي، فقد صرح مسؤولي المفوضية الأوروبية بأن هذا الفساد يؤدي إلى تقويض ثقة المواطنين بمؤسساتهم الديمقراطية وتعويق مبدأ الشفافية وسيادة القانون، بالإضافة إلى الانعكاسات السلبية الخطيرة للفساد على الأوضاع الاقتصادية بهذه الدول ويحرم حكوماتها من الكثير من العوائد الضريبية التي عادة ما تكون في أمس الحاجة إليها في ظل تزايد نسب العجز بموازناتها وتضخم ديونها السيادية وانخفاض معدلات النمو الاقتصادي بها.لذا فقد تقدمت المفوضية الأوروبية إلى دول الاتحاد الأوروبي بمجموعة من التوصيات والمقترحات التي يمكن أن تساعدها في الحد من ظاهرة الفساد المتفشية بها، ولعل من أهم هذه التوصيات والاقتراحات ضرورة تشديد وتعزيز إجراءات المراقبة القانونية وفي المقدمة منها مناقصات القطاع العام مع تشديد العقوبات على كُل من الفاسدين والمفسدين.كما دعت المفوضية السياسيين الأوروبيين إلى تبني سياسات أكثر التزاما بالبعد الأخلاقي، في ظل ارتباط بعض جرائم الفساد بعدد من السياسيين بما انعكس سلباً على نظرة مواطني هذه الدول تجاه هؤلاء السياسيين وعلى البناء السياسي والديمقراطي الأوروبي، بما زاد من انتشار ظاهرة الفساد في الدول الأوروبية... وكان عليهم الاقتداء ببعض التجارب العالمية المحترمة المشرقة الرائدة كتجربة بورصة لندن التي لا تحكمها أية قوانين وإنما تحكمها مجموعة من الإجراءات التي تخضع لقواعد ومعايير أخلاقية اتفق عليها المتعاملون في السوق وقبلوها وأصبح لها صفة الإلزام، وأنه في حالة عدم توفر تلك الإجراءات في أي شركة فإنه يحق لمجلس إدارة البورصة شطب قيدها من عمليات التداول. وأشارت المفوضية الأوروبية إلى أن الهدف الرئيس من طرحها لهذا التقرير وإجراء الاستطلاع الذي قام به المكتب الأوروبي للاستطلاع "اليورو باروميتر" هو تركيز الضوء على ضخامة حجم ظاهرة الفساد التي استشرت في دول الاتحاد الأوروبي، وما يمكن أن تسببه من خسائر اقتصادية وسياسية واجتماعية بشكل أكثر خطورة في المستقبل القريب، بما يفرض على المسؤولين أهمية إجراء حوار ونقاش مجتمعي موسع حول أفضل السبل لمكافحة هذه الظاهرة سواءً على مستوى دول الاتحاد أو البرلمان الأوروبي أو البرلمانات الوطنية لكل دولة على حده، وكذا منظمات المجتمع المدني، وأكدت المفوضية على ضرورة إنشاء آلية أوروبية جديدة لإتاحة وتبادل الخبرات بين الدول وأصحاب المصالح والمنظمات غير الحكومية، ومن ثم العمل بفاعلية على الحد من انتشار ظاهرة الفساد في دول الاتحاد الأوروبي.