11 سبتمبر 2025

تسجيل

الحصار ومعركة الحقوق المنتهكة.. جولة حاسمة

12 فبراير 2018

أهل الخليج الذين يغبطهم عرب كثيرون وغير العرب، على قوة اللحمة بينهم، وروابط قربى ضاربة في القدم، لم تنل منها حدود مرسومة على الأرض، لا وجود لها في القلوب ولا في الوجدان، ولا أضعفتها وسائل الاتصال الحديثة ولا العالم الواسع المفتوح المغري بالذهاب بعيدا والتحرر من ضغط الجغرافيا والثقافة، هذه المنطقة التي حباها الله بنعمه الظاهرة والباطنة، فاستحالت خيرا ورفاهية واستقرارا، وفتحت أحضانها لشتى جنسيات الأرض،  أهلها اليوم ليسوا بخير تماما وما كان ينبغي أن يكونوا إلا في أفضل حال، لولا  عشوائية قرار بعض أولي الأمر ممن ائتُمِنوا على مصير المنطقة وأهلها، وهي أمانة ثقيلة.  الحصار الذي ضُرب ظلماً على قطر، منذ ثمانية أشهر، أحال بجرة قلم، حياة الآلاف من الآمنين الى كابوس حل بهم دون سابق خلاف أو إنذار، يراوحون فيه بين الحيرة، والذكريات الحية والانتظار، بعدما تشتت العائلات وقطعت الأرحام والأرزاق ، وأوصدت أبواب العلم أمام شباب تواق إلى المستقبل، وسدّت المنافذ التي طالما كانت شرياناً نابضاً بالحياة في كل الاتجاهات، وتوقفت الأعمال، وجمدت أرصدة بذل أصحابها فيها عصارة جهدهم وأعمارهم  ورفدوا دول مجلس التعاون الخليجي بالثروة والأعمال والأفكار، وطالت "العقوبة الجماعية" الجائرة، المفتقدة  الحكمة والتبصر حق الناس في ممارسة شعائرهم الدينية، فأصبحت العمرة والحج أمنية صعبة المنال، والطريق إليها شاقا. وهو أمر موجع وغير مسبوق في تاريخ المنطقة  وأعرافها الجامعة، ولولا التعفف والتسامي اللذين شبّ عليهما القطريون لسمعنا كل يوم قصة معاناة تدمي القلب والضمير، كتلك الأم التي توفيت في البحرين ولم يتمكن ابنها من حضور جنازتها، فأقيمت على روحها صلاة الغائب.  مهما قيل عن قدرة أظهرها أهالي الخليج، و القطريون تحديدا، على التعايش مع وضع طارئ، شاذ، وعن امتصاصهم للصدمة الأولي وارتداداتها، ووقوفهم بصلابة اليوم على أرضية صلبة للرد على ما طالهم من إجراءات طائشة، قصيرة النظر، فإن الضرر كبير والجرح غائر، يستعصي على العلاج كلما طال أمده. إذ لا يتعلق الأمر بخسارة مادية أو غلق مؤقت للحدود، أو دعاية إعلامية مغرضة  لم تستثن محرمات ولا أعراضا، فذاك شأن متعارف عليه بين الأعداء والخصوم، من دول أو أفراد، وحتى في حال العداوة، فان النفوس السوية تستنكف منها، وتندد بها أصوات الشرفاء وأقلامهم، وترفضها القوانين الدولية والأعراف الإنسانية، فكيف والحال بين الأخوة والأشقاء؟ وضحاياه هم من الأبناء والآباء والأمهات والأزواج والزوجات، وطلبة العلم، والحالمين بمستقبل أفضل، ومرضى،  قُطع عنهم العلاج  في حالات مستعصية، بعدما راودهم أمل في الشفاء.  ليس في هذا التجسيد مبالغة ولا جرعة زائدة من الدراما، إذ تحكي أعداد  الشهادات المتزايدة  لضحايا الحصار من الأفراد والعائلات،  الذين قرروا كسر جدار الصمت، عن ألم ومعاناة لا يعلم تفاصيلها الا أصحابها. تُعاش ولا توصف، ويختلف فيها إيقاع الساعات والأيام  والأسابيع والأشهر.   كيف استطاعت الأطراف التي أحدثت الفُرقة، وسببت التشتت أن تتجاهل الواقع القاتم الذي أوجدته؟ أو أن تغمض عيونها عن أخطاره المحدقة القريبة والبعيدة، التي ليست سوى نار تحت الرماد؟  سوى أن تتفاعل معه إما بالتهديد والوعيد بالويل والثبور لمن تسوّل له نفسه مجرد التعبير عن التعاطف، أو بصمّ الآذان عن  المطالبات بارجاع الحقوق إلى أصحابها بما يقتضيه القانون.  ذاك نٌهجٌ، سيكون من المهم متابعة مآل من سلكوه، أما قطر، فسلكت طريقا مختلفة تماما: طريق المصارحة، والاستماع، والتوثيق، ومن ثم  الذهاب بالقضية الى حيث ينبغي أن تذهب بعدما استعصى التواصل مع الجار والشقيق القريب، ولم تتخذ السلطات القطرية، في الأثناء، أي مواقف عقابية تجاه مواطني دول الحصار المقيمين فيها، ولم تلجأ الى معاملة دولهم بالمثل.  لقد تصدت اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان القطرية، بشكل احترافي، محنك، وموضوعي رغم مرارة الخصومة،  للإجراءات التعسفية والانتهاكات التي طالت عشرات الآلاف من المتضررين، تقدم منهم بشكاوى رسمية نحو ٤٠٠٠ مشتكٍ، واتبعت منذ قررت أخذ مسؤولية انصاف الضحايا على عاتقها، مسالك قانونية وحقوقية واضحة، واتسمت تحركاتها بشفافية عالية، يجرؤ عليها فقط من لا يخشى في الحق لومة لائم.  وتراوحت تحركاتها بين جمع الشهادات الفردية لضحايا الحصار وما كشفته من آثار اجتماعية واقتصادية، وبين تضمينها في تقارير، بلغ عددها الأربعة آلاف الى حد هذه اللحظة من عمر الحصار، ورفعها الى الجهات الدولية والمنظمات الحقوقية، ومطالبتها بضرورة التحرك العاجل لوضع حد للانتهاكات بحق المواطنين والمقيمين بدولة قطر والدول الخليجية الثلاث التي تستمر في فرض الحصار. لم يكن أحد يرغب في تفعيل مؤسسات حقوقية ضد "أشقاء"… فربما كان الأجدر في وضع طبيعي، أن تُسخّر في خدمة قضايا عربية وإنسانية عادلة، وتشترك في ذلك مع نظيراتها التي تتجاهل اليوم نداءاتها العاقلة، الرصينة للنأي بالأهالي المسالمين، المصدومين، عن الخلاف السياسي، الذي مآله، مهما طال أمده، أن يخبو ويزول. ولكن من يضمن أن تُشفَى النفوس، ويُرتَق الفتق في الثوب الخليجي الذي كان جميلا زاهي الألوان الى وقت غير بعيد؟  حصل المحظور وقُضي الأمر، وان اقتضت البراغماتية شيئا، الآن، فإنها تقتضي التعامل مع الحقائق التي أفرزتها الأزمة بالأدوات المطلوبة والمتاحة وحسب الأولويات، ومن أولويات أي دولة مسؤولة، أن ترعى مصالح مواطنيها أولا وأخيرا، ف"كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته"، وعندما تجد طائفة من الرعية، حياتها في مهب الريح، رغما عنها، فمن واجب سلطاتها المنظورة أن تتكفل بها وتعيد اليها البوصلة والأمل، وتسخر كل طاقاتها لأجل ذلك، وهذا ما أقرت قطر العزم عليه منذ أشهر في حراك دؤوب، واليوم تأتي النتائج  الأولية تباعا، ولم تأت من فراغ ، فأن يعلن التحالف العالمي للمؤسسات الوطنية لحقوق الانسان، الذي يضم ١١٠ مؤسسات وطنية حقوقية عبر العالم عن دعمه لقطر في دعواها ضد انتهاكات الحصار الإنسانية والاجتماعية، وإلزامية  ضمان حصول الأفراد، في زمن الأزمات، على سبل انصاف متاحة وفعالة لمعالجة انتهاكات حقوق الإنسان، فهي رسالة مضمونة الوصول، لا يُحتاج المعني بها إلى تعريف.  والحقيقة أن الأطراف المتهَمة اليوم، لم تكن بحاجة لتنبيهها بأنها بما ألحقته من أذى بمواطنين غير مذنبين، انما انتهكت مواد واضحة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وأخري في العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ناهيك عن بنود الميثاق العربي لحقوق الانسان وإعلان حقوق الإنسان لمجلس التعاون لدول الخليج العربية والاتفاقية الاقتصادية بين دول المجلس، والقائمة قد تطول، وقد خاطبت قطر بذلك نحو٤٥٠ جهة ومنظمة حقوقية دولية وإقليمية، ولنا أن نتخيل في الأثناء حجم الخيبة وعدم التصديق لدى أفراد تلك المنظمات لدى سماعهم عن حقيقة ممارسات مصدرها أشخاص ودول يفترض أنهم ذوو خصوصية ثقافية ودينية تنبذ الفرقة والظلم. و قد تكون المحطة القادمة والحاسمة في أروقة مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، وعندها ستكون الأزمة الخليجية للأسف، قد دخلت طورا لا رجعة فيه،  وانتقلت فيه النفوس والمشاعر الى حالة التكلّس، بعدما دُفَع الشقيق دفعا الى مقاضاة علنية ولكن عادلة، لشقيق متعنت، أقفل كل سبل الحوار ورفض جميع أسباب الصلح، حين كان ذلك ممكنا، وحين كان  شعار "خليجنا واحد" يصدح في أكثر من عاصمة خليجية دفاعا عن صرح يتمسك به أبناوه  باستماتة من أجلهم ومن أجل أجيال قادمة.  ليست الأزمة الخليجية والحصار مجرّد أزمة سياسية، إنما هي مثقلة بالرمزية القيمية، فمن عرب الخليج انتشرت قيم التكافل، و"الفزعة" والانتصار للحق، ونبذ الظلم، والتكبّر و الكِبر، وتغليب اصلاح ذات البين ووصل صلة الرحم. وهذه ثروة إنسانية وأخلاقية لا تعادلها ثروة، ولا تنضب، طالما وجدت من يسقيها، وفيما تسعى كيانات إقليمية ودولية إلى ربط مصائر شعوبها بعضها ببعض، رغم افتقاد معظمها مقومات الانصهار، هل سيرضى حكماء الخليج وأبناؤه البررَة بانفراط عقدهم  الفريد، في هذا الزمن الصعب؟