14 سبتمبر 2025
تسجيلبفارق سنة تقريباً على تغيير المشهد الميداني والعسكري والإنساني في مدينة حلب السورية بالحديد والنار، ورسم النهاية بتلك الباصات الخضراء، التي ستحفظها الذاكرة، وهي تنقل في وحل الشتاء القاسي، الوافدين إلى المدينة والراغبين في المغادرة علي السواء، تسير الغوطة الشرقية في هذه الأيام الصعبة على نفس المسار، ومقدماته على الأقل، ولم تكن منذ أحداث حلب سوى ملف مرحّل إلى حين، وها قد آن أوان فتحه بكل الأهوال التي على الأهالي أن يكابدوها، وكأنها قدر محتوم. فهل ستفيد تجربة المأساة الأولى في عاصمة الصناعة وقسوة آلاتها، في جعل سيناريو الغوطة الشرقية ذات البساط الطبيعي الأخضر أقل قسوة على سكانها الذين بلغوا الرمق الأخير من الصبر والتمسك بتلابيب الحياة؟ لئن أسمعَ الإعلام العربي والعالمي صوت أهالي المدينة المكتوم خلف جدران الملاجئ والأقبية، ونجح في نقل نداء استغاثتهم إلى العالم، فقد اصطدم بجدار مؤسسات المجتمع الدولي المنقسم على أجنداته بشكل صارخ لا يحتاج لشرح وتحليل، ولم تكن تصريحات عدد من زعماء العالم صادمة، بقدر ما هي واقعية، عندما وضعوا مجلس الأمن أمام تحدٍ تاريخي لقدرته على فرض قرار إنساني قبل أن يكون سياسياً: "إذا فشل المجلس في إنهاء مأساة الغوطة، فإنه يرسم نهايته أيضا"، بمثل هذه الكلمات تقريباً عبر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن خطورة اللحظة أمام الضحية ومن يفترض أن يكون المنقذ، وعكسَ بهذا التصريح النادر ما يختلج في نفوس الملايين ممن باتوا يشككون في جدوى مؤسسات المجتمع الدولي التي أنشئت لتحفظ توازنه وتضمن الحد الأدنى من الأمن لمن يتهددهم الخطر حول العالم، وما أكثرهم. لقد كان امتحاناً عسيراً، ومصيرياً أمام المندوبين الدائمين وغير الدائمين في المحفل الدولي، ومنهم من تمنوا سراً وجهراً لو لم يكونوا مجبرين على خوضه لحسابات لم تعد تخفى على أحد، فيما الصور الحية للفظاعات التي تشهدها الغوطة تنتقل بسرعة البرق بين وسائل الإعلام التقليدية والحديثة، تختصرها مساحة لا تتجاوز الـ ١١٠ كيلومترات تهز أركانها طائرات حربية، تقصفها بمعدل ١٠٠ غارة يومياً... نسق جنوني قابله نسق "متأنٍ"، يحسب الخطوات ونقاط الربح والخسارة داخل أروقة مجلس الأمن، عندما أُجبر تحت ضغط الدماء على أن ينعقد ليصدر قراراً يلزم بوقف إطلاق النار ويطلب هدنة إنسانية تمنح الضحايا المحاصرين من الأحياء وقتاً مستقطعاً لالتقاط الأنفاس. وكما في الأعمال الدرامية، ذات الإيقاع المثير للـ "تشويق"، بل للأعصاب، تابع العالم نهاية الأسبوع الماضي، تلك الساعات والدقائق المربكة الصاخبة في صمتها، حين كان مندوبو الدول الأعضاء في المجلس يتداولون بشأن صيغة القرار المنتظر، وشروطه و"ضماناته"، مدركين، عن قناعة أو رغماً عنهم أن كل لحظة تساوى روحاً تزهق أو تكتب لها حياة جديدة، ولو في غوطة منكوبة، كانت العيون على روسيا والزاوية الضيقة التي وجدت نفسها فيها، بين حساباتها الإستراتيجية والعسكرية والسياسية وميدان فاضَ بالمآسي، يختبر ما بقي من حس إنساني لدى الأقوياء، سيشكل تجاهله ضربة أخلاقية يصعب النهوض منها. وبين كل هذه المحاذير، تحركت روسيا بحذر شديد وبقدر أقل من التصريحات القابلة لشتى التأويلات والأحكام في تلك اللحظات الحاسمة، ولعبت جيداً على عنصر الوقت، لتطالعنا وسائل الإعلام بخبر عاجل يفيد بـ "إرجاء التصويت على قرار وقف إطلاق النار، إلى اليوم الموالي، بسبب خلافات بين الدول الأعضاء"، ولأن روسيا طالبت بتعديلات على مشروع القرار لجعله منطقياً وواقعيا، بل طالبت بضمانات لجعله ملزماً "لكل الأطراف". وحمل اليوم الموالي، خبر الاتفاق بالإجماع على مشروع القرار المنتظر على أحر من الجمر، وأظهر العالم المصغرَ تحت سقف مجلس الأمن الدولي، متوافقاً، بإكراهات، حول ما لا يمكن الاختلاف حوله مهما بلغ هذا العالم من فظاظة وأنانية، وتجنبت روسيا تصنيفاً يترصدها بانعدام الإنسانية، والتنظير دون التطبيق، لمعاني السلم والتعاون بين الدول والشعوب، ولم ترتكب خطيئة "الفيتو" هذه المرة، في السياق الخطأ. كان واضحا، أن الأولوية القصوى كانت لإصدار القرار بالإجماع، ومنح المحفل الدولي من خلاله، زخماً وقوة، في مرحلة بدا فيها وكأنه يترنح تحت إيقاع الخلافات العاصفة بين أعضائه وتشكيك متزايد في قدرته الفعلية على أداء المهام التي أسس من أجلها، وخصوصاً أن يكون صدى لنداءات ملايين المستضعفين العاجزين عن حماية أنفسهم. صدر القرار، وكانت تلك مرحلةً، أعقبتها مرحلة التأويلات، والتحفظات والشروط: من هي الأطراف المعنية بوقف إطلاق النار، وما المدى الزمني للهدنة، ومصير المدنيين العالقين بين الأطراف المتقاتلة على الأرض وفي الجو... وما هو القدر المسموح به، أو المطلوب من غارات لن تتوقف حتماً؟، ولن تمتلك قدرة خارقة بين عشية وضحاها لتميز بين الأهداف البشرية، من مسلحين ومدنيين، بينما ما كان مدينة، سُوي بالأرض، فبقي سطحها مكشوفاً تماماً أو الملاجئ المكتظة الخانقة. قد يكون سرد هذه التفاصيل مفيداً في تبيان مدى تشابه مشاهد الحرب، في مدن مختلفة في البلد الواحد، وكيف أن سلوك المتحاربين لا يتغير كثيراً إلا فيما يخدم صورتهم ويحفظ مكاسبهم، وكيف أن الفاصل الزمني بين حلب والغوطة، كان مجرد فسحة لمداولات سياسية ومؤتمرات تعقد في مدن بعيدة، جميلة مستقرة، يسعى أغلب منظميها إلى تكريس مواقعهم، وإبقاء السكان في مناطق الحرب، والمقاتلين "المطلوبة رؤوسهم" رهائن" حتى تتموقع القوى المتصارعة جيداً، و كأن لا شيء يستعجل الحل في تلك المنطقة التي كانت من أوائل معاقل الثورة. ويتبين أيضا كيف أن الزمن يكتسب معاني مختلفة ويسير بوتيرتيْن أو أكثر، بين من يستغيث بالعالم لإخراجه من تحت الركام، ومن يترجم تلك الاستغاثة، في تلك اللحظات، بمنطق الربح والخسارة، ويتعاطى مع الوقت المخصص لإنهاء المعاناة الجماعية التي يشاهدها العالم، بما يضمن له قدرا أكبر من الربح وأقل قدر ممكن من الخسارة، ثم يطلون، على الشاشات ويتحدثون بلهجة المنقذين الذين قدموا التنازلات، ولكن قسمات الوجوه تنطق بغير ذلك. ستدخل الغوطة الشرقية، بعد هذا الماراثون الدبلوماسي، فصلاً جديداً، لن يختلف كثيراً، عن فصل حلب، إلا في بعض التفاصيل الموضوعية، أو مفاجآت غير متوقعة، إذ إن اللاعبين هم أنفسهم، مع عودة قوية للاعب الأمريكي، لن تجعل طريق تسوية مأساة الغوطة، سالكة لروسيا كما في حلب، وسيُعلَن عن ممرات آمنة، وعن ساعات محددة يتوقف فيها القتال، قد تتطور إلى أيام، لتبلغ الثلاثين يوماً المنشودة، وسنسمع عن خروقات واتهامات متبادلة بمن ارتكلها، وعن استثناءات لكيانات دون غيرها من الهدنة، وعن مساعدات إنسانية تنتظر الدخول، وستحاول القوى التي اكتسبت تجربة في المضمار أن تمسك بزمام الوضع في الغوطة، التي تبدو وكأنها اختبار جديد لحقيقة تحكمها في مجمل الوضع السوري.. وستكون الأعصاب مشدودة منذرة بما قد يكون أسوأ في حرب سورية بدأت ثورة، ثم أزمة، ثم حرباً أهلية فحرباً كونية مصغرة، وهي توشك على اتمام عامها السابع... ويقيناً لن يكون عام الخلاص.