10 سبتمبر 2025

تسجيل

كيْ تهدأَ عواصف الشرق الأوسط

19 فبراير 2018

"منطقة موبوءة بالصراعات"، هو الوصف الذي أُطلق على الشرق الأوسط وعلى مدى عقود خلت، لا يختلف فيه أهله عن المهتمين بشؤون المنطقة من خارج دائرتها. وصف يختزل واقعا متقلبا، عرف من الاهتزازت أكثر مما عرفه من فترات استقرار عابرة. فما كان يُفترَض أن تكون عوامل قوة، تبيّن عبر كل موجة مد جديدة، أنها هي ذاتها، عوامل ضعفه أو هكذا أُريد لها، سواء أدرك أهل المنطقة حقيقة ذلك أو خانهم الإدراك. موقع استراتيجي حيوي يضخ الأوكسجين في شرايين المعابر البحرية الكبري، وثروات طبيعية من الطاقة هي الأهم والأكثر غزارة في العالم بنسبة تقارب ٦٥٪ من احتياطي النفط داخل منظمة أوبك، وديمغرافيا يمثل الشباب بِطاقاته الخلاقة نسبتها الكبرى، وتنوع اثني وثقافي وديني، وتاريخي، يجعل منها  فسيفساء فريدة، مليئة بإيحاءات، لا تنضب، لطالما شكلت مصدر إلهام للرواة، والباحثين والرحالة والمستكشفين والفنانين من شتى ميادين الفنون، جاؤوا يسبرون أغوار حضارة وصفها الباحث فرانز روزنتال بال"حضارة المعجزة" التي اكتملت وبلغت ذروتها بشكل سريع ومذهل، وسبقت آخرين بدوا أكثر تمكنا وجاهزية.   "وذكّر فإن الذكرى تنفع المؤمنين"، قد يكون هنا مقامها، حتى لا ننسى أن شعوب الشرق الأوسط أهدت العالم يوما مآثر ساهمت في تقدم البشرية، لأنها اتحدت حول ما يجمعها  لا ما يمايز بينها، إذ إن الاختلاف من طبائع الخليقة، والقبول به كعامل إثراء، لا سبب للتنافر، دليل حكمة وتبصر، وهو ما بوأ المنطقة وشعوبها في حقبة من حقب التاريخ مرتبة متقدمة. واليوم، وللأسف، تكاد تتأصل لدى هذه الشعوب ذاتها، وإن في نسخها المحدَثَة، عقدة النقص والخطيئة بأنها أصبحت عالة على العالم، تشغله بما تصدّره من مشاكل وصراعات تحتل أخبارها وصورها الصدارة بشكل يومي تقريبا. وتشتغل من أجلها الأمم المتحدة بمختلف أجهزتها وما يتفرع عنها من هيئات فض النزاعات أو المؤسسات الإنسانية التي تستمر في حالة النفير، لمساعدة ضحايا هذه الصراعات التي ما إن يخبو أحدها حتى يشتعل آخر، في الجوار القريب. تشير أحدث الأرقام إلى أن ٧ من بين ١٠ بؤر صراعات عالية الكثافة في العالم، تقع في الشرق الأوسط، وأن قتلى هذه الصراعات يشكلون نصف إجمالي ضحايا الصراعات الدولية، وأن عام ٢٠١٧ هو الأكثر دموية، ولتتضح الصورة  أكثر، تُبرز الإحصاءات حجم خسائر اقتصاد المنطقة جراء الصراعات المسلحة لتبلغ أكثر من ١٢ تريليون دولار في أقل من سبعة عقود، وتريليون دولار آخر، حديثا، لإعادة إعمار المدن العربية المدمرة  بسبب الحروب، كما تبين أرقام الاتحاد الدولي للمصرفيين العرب. وماذا أيضا؟  شكل جديد مستجدّ من الخلاف المستعر تحت الرماد، احتوته لسنوات جهود ومساع بذلها العقلاء، أو منع تفجّرها تماسك وكتم للغيظ، وتسام من أجل المصلحة العامة، واتعاظا بما آلت إليها أحوال أشقاء غير بعيدين، وتغليبا لعرى أخوة في الدم والنسب  عدا عن أخلاق الجوار، ولكن، ولأن التدمير أسهل من البناء، ضُرِب بكل تلك الاعتبارات عرض الحائط، ليتفجّر الخلاف في لحظة فارقة، لم تُراعَ فيها خطورة المرحلة على الجميع، ولتنطلق معاول الهدم في بناء بقي السد المنيع الأخير وجدار الصد الوحيد أمام الضربات التي يتلقاها شرق أوسط منهَكٌ، بيد أبنائه وبأيادٍ خارجية تحركها الأطماع من كل صنف. التلويح بالاجتياح والتنمّر والاستصغار بسبب الجغرافيا، والمماحكة والتضليل والدعاية، ومحاولة إلحاق الأذى بمعيشة المواطنين وأرزاقهم، بشكل ممنهج، لم تعد أدوات الحرب النفسية التي يستخدمها الأعداء التقليديون، الذين رسخوا في الخيال العام للمنطقة بهذه الصفة وهذا المسمّى، بل يمارسها اليوم الأشقاء ضد أشقائهم، متخذين من المنظومة الخليجية ساحة لحرب غير معهودة بكل المقاييس، ومهددين بالمزيد، ما يثير التساؤل عن جدوى القوانين الدولية وفعاليتها، ومدى التزام الدول والكيانات بها، وعمن يمتلك القدرة على فرض هيبتها على الجميع، حتى لا يتحول العالم إلى قانون الغاب. العالم الذي "يقف اليوم على حافة الهاوية" حسب تشخيص كبير الدبلوماسية الألمانية زيغمار غابرييل في مؤتمر ميونخ للأمن في دورته الأخيرة الرابعة والخمسين. في هذه الأجواء وهذا الواقع الإقليمي والدولي شديد الخطورة، ومن على منصة المؤتمر، جاءت دعوة أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، جميع دول الشرق الأوسط للاشتراك في اتفاقية أمنية جامعة، "كي يتمكن الشرق الأوسط من جعل الاضطرابات شيئا من الماضي"، مؤكدا بعبارات واضحة "أحث جميع الدول على الاستمرار في ممارسة  ضغط دبلوماسي على منطقتنا من أجل تحقيق ذلك". دعوة لا تحتاج إلى شرح أو تأويل بقدر حاجة المنطقة والعالم إلى وقف النزيف، بصيغة للحل عادلة، ومتطابقة مع  متطلبات النظام العالمي الجديد الذي يمر بمرحلة مخاض عسيرة ستفرز بالتأكيد عالما مختلف الملامح. من بين جميع قادة المنطقة ممن حضروا المؤتمر ومن غابوا عنه، كان أمير قطر، الذي استُهدِفت بلاده بأزمة مفتعلة مريرة، أدارها بحكمة واقتدار، واستخلص منها العبر، ومن موقع المتابع والمتفاعل المهموم  من قلب الشرق الأوسط المأزوم، كان سبّاقا إلى حل شامل، ورؤية جريئة، لو تحققت، ستنقل الشرق الأوسط إلى مرحلة جديدة من الازدهار والاستقرار، وتقدمه للعالم نموذجا للتنوع والتعايش السلمي، وقد كان كذلك يوما.  في اللحظات الفارقة التي توضع فيها الشعوب وقادتها أمام امتحان تحديد المصير والاتجاه، سيكتشف الجميع من الذي فضّل أن يكون في خانة البُناة، ومن استمرأ الهدم، وإن أعلن خلاف ذلك، ولكن الأفعال لا الأقوال هي التي تحدد المعادن ويدوّنها التاريخ الذي لا يجامل ولا يرحم.