12 سبتمبر 2025
تسجيلتبدو الجولة الراهنة من المفاوضات الإيرانية الغربية (مع دول 5+1) مختلفة إلى حد كبير عن الجولات السابقة، حتى لدى المتعاطين مع شؤون الملف النووي ومتابعته الذين يرون أن النتيجة لن تأتي مختلفة كثيرا عما جرى في الجولات السابقة، وإذ تتعدد أنماط الاختلاف بين المفاوضات الراهنة وسابقاتها، فإن ثمة اختلافات أساسية تعطي هذه الجولة من المفاوضات طابعا خاصا مختلفا. هذه الجولة تأتي بعد انقطاع طويل لعملية التفاوض، ومن ثم هي تأتي لتمثل محصلة لأوضاع جديدة جرى ترسيخها على أرض الواقع خلال مرحلة ما بعد الجولة السابقة، من خلال عمليات استعراض عوامل قوة الضغط والضغط المقابل بما أحدث تغييرا وتعديلا للتوازنات بين كلا الطرفين، فمن ناحية، جرى إقرار حزمة عقوبات غربية جديدة على إيران صارت تتطور باتجاه تصاعدي ضدها، حتى طالت عمليات تموين الطائرات الإيرانية وخطوط طيرانها في الأجواء الأوروبية، إذ إن العقوبات التي جرى فرضها من قبل مجلس الأمن الدولي، وجدت فيها الدول الغربية فرصة فصارت تفرض عقوبات خاصة بها مضافة وربما خارج نطاق العقوبات المفروضة من مجلس الأمن. ومن ناحية مقابلة، صارت إيران بالمقابل صارت تضغط بأوراقها في الإقليم بطريقة أشد فعالية مما كان يجري خلال الفترات الفاصلة بين جولات المفاوضات السابقة ولعلها ليست مصادفة أن جرى ضغط إيراني في العراق من خلال الإصرار على المالكي والضغط في لبنان عبر لإنهاء مترتبات المحكمة الدولية وبالأحرى لإضعاف جبهة المرتبطين بالغرب، خلال المرحلة الماضية بما غير موازين القوى على نحو أو آخر بين الأطراف المحلية المرتبطة بالغرب وإيران. وكانت هناك تحركات إيرانية باتجاهات الإقليم أو في محيطها، لإفشال تأثيرات العقوبات الدولية علبيها عبر تعزيز الدور والنفوذ في الإقليم. لقد كان الشغل الشاغل لإيران في المرحلة الماضية، هو تكثيف كل الجهود من أجل أن تدخل جولة المفاوضات الحالية في وضع يقول تشكيله العام أن لا فائدة من فرض العقوبات عليها، وأن لا بديل أمام الغرب بالتسليم لإيران بحقوقها النووية ونفوذها في الإقليم، بجعل هذا وذاك أمر واقع بالفعل. وجولة المفاوضات الراهنة تأتي بعد تغييرات مهمة وكبيرة في علاقات إيران الدولية أو في الوضع الدولي لإيران على صعيد التأثير في صناعة القرار الدولي بشأن برنامجها، فمن ناحية بدا أن إيران تعرضت لضربة مؤلمة في ما كانت تستند إليه في قدر من قوة موقفها التفاوضي دوليا، حين وافقت كل من الصين وروسيا على فرض حزمة العقوبات الأخيرة، وهو ما أظهر تغيرا وتحولا في مواقف الدولتين إذ كانا يرفضان من قبل فرض تلك الحزمة من العقوبات، كما أن روسيا تحولت بموقفها من إيران على نحو مؤثر على إستراتيجية الدفاع الإيرانية، حين أخلت باتفاقها مع طهران بشأن صفقة تسليحها بصواريخ إس 300 المتطورة للغاية والقادرة على توفير الحماية الكاملة لمؤسسات المشروع النووي الإيراني، بما سمح باستمرار تهديد إسرائيل والولايات المتحدة لهذا البرنامج، وهو لا شك يضعف قدرة إيران على تحدي الغرب على الأقل في المرحلة الراهنة، ويجعلها في موقع الحرص على عدم انزلاق الأمر نحو الحرب. والمفاوضات تأتي بعد حدوث تغييرات مقابلة في علاقات إيران الدولية، لكن هذه المرة في علاقات إيران مع أقرانها من الدول "الإقليمية" الصاعدة في العالم. لقد تحركت إيران بهدف موازنة خسائرها بعد تغيير مواقف روسيا والصين، من خلال توسيع وتعميق علاقاتها السياسية مع كل من تركيا والبرازيل، حين انعقد اجتماع ثلاثي، وجرى القرار اقتراح بتبادل اليورانيوم ورفض العقوبات.. إلخ. لقد دخلت تركيا والبرازيل على خطوط حل مشكلة الملف النووي الإيراني، وجاء تدخلهما ليوسع ظاهرة نمو وتأثير ووزن الدول الإقليمية على الصعيد الدولي عامة وفيما يتعلق بشأن الملف النووي الإيراني خاصة، وكان الأهم هنا هو أن تركيا والبرازيل كانتا تدافعان عن تطورهما المستقبلي أيضا. والمفاوضات الراهنة تأتي بعد حدوث تطورات مهمة على صعيد المشروع النووي الإيراني نفسه. لقد كانت خطوة تخصيب اليورانيوم واحتمالات مبادلة الوقود النووي هي التي سيطرت على الحركة الدبلوماسية خلال المفاوضات السابقة، والآن يبدو أن تلك القضايا قد تراجعت إلى الوراء على نحو أو آخر، إذ اختارت إيران توقيت ما قبل المفاوضات لتعلن عن بدء إنتاج ما يسمى بالكعكة النووية التي تحقق تطورا أعلى في القدرات الإيرانية، وبمثابة إعلان عن امتلاك الدورة النووية كاملة –المعنى أن إيران صارت قادرة على تخصيب اليورانيوم بأي نسبة تريدها -فضلا عن أنها قد بدأت بالفعل امتلاك التكنولوجيا النووية السلمية بافتتاح أو بدء حقن الوقود في محطة بوشهر، وذلك كله ما يطرح للبحث والتفكير نمط التفاوض الإيراني مع الغرب وغيره، إذ تسبق إيران كل جولة من المفاوضات بالتقدم خطوات للأمام بما يجعل المفاوض المقابل مرتبكا ومطروحا عليه قضايا جديدة ويجد نفسه في موقع الدفاع. الطاولة الإيرانية أهم ما يميز "معركة الملف النووي الإيراني" هو نمط الإستراتيجية التي عملت من خلالها إيران في التعامل مع الضغوط والاحتمالات المتعددة للمواجهة مع الغرب وتلك القواعد المعقدة لإدارة المفاوضات، وتلك القدرة المتنوعة في استخدام الأوراق الإيرانية في الإقليم.. إلخ. الإستراتيجية الإيرانية في التفاوض هي إستراتيجية معقدة إن لم نقل إنها إستراتيجية بالغة التعقيد. هي إستراتيجية ترتكن إلى قوة الإرادة، وذلك أمر مهم للغاية، إذ نحن لسنا فقط أمام خطط محكمة للتفاوض فقط، بل نحن أمام نظام حكم يمتلك قوة الإرادة والتصميم على تحقيق أهدافه، وذلك أمر مهم في إنفاذ أي خطة إستراتيجية. وهي إستراتيجية مرسومة بدقة على صعيد الأهداف وتطورها وإمكانية تغيرها بشكل تدريجي مرن وفجائي حاد في ذات الوقت، إذا تطلب تطور الأوضاع مثل هذا التحول أو ذاك، وهي قادرة على المزج بين ما هو سياسي وعسكري واقتصادي وحركي في مجالات متعددة في ذات الوقت. هي تعتمد على حزمات متعددة من أوراق الصراع تستثمر كل ورقة من أوراق القوة لديها وتحول العمل على استثمار عوامل الضعف لدى خصومها، وتلك قاعدة أساسية في التخطيط الإستراتيجي، لكن الأهم هو توافر القدرة لدى الكوادر التي تشرف على الإدارة الإستراتيجية لمعركة ملف هذا الصراع، وهنا يبدو أن إيران تمتلك بالفعل هذا النمط من الكوادر. ففي الجانب العسكري تحاول الإستراتيجية الإيرانية تعظيم عوامل قوة إيران الذاتية عبر الإنتاج المتطور لوسائل الدفاع والهجوم، وفتح آفاق المعركة المحتملة على مساحة واسعة من الأرض بما يضعف قدرة الخصم على الهجوم بحكم توسع المعركة وشدة وتعدد وتنوع تداعياتها وعدم قدرة الخصم على تحديد تأثيراتها وتداعياتها، كما لا يجري التلويح بالقوة العسكرية لإحداث خسائر عسكرية بل بالتركيز كذلك على الخسائر الاقتصادية للخصوم وإلى درجة قد تطيح بقدرات دول كبرى على الصعيد الاقتصادي، وهو ما يوفر قدرا هائلا من الضغوط الدولية على الخصم المباشر. وهي إستراتيجية تتمتع باتساع كبير في المحيط الذي تمارس فيه، إذ صارت أوراق القوة الإيرانية ممتدة من باكستان وأفغانستان إلى منطقة الخليج إلى المشرق العربي إلى دول آسيا الوسطى. إيران لديها قدرة الآن ليس على زعزعة أوضاع لبنان بل على تحويلها إلى مساحة قوة لمصلحة الإستراتيجية الإيرانية على حساب القوى المرتبطة بالغرب من خلال أفعال حاسمة تجعل الغرب يخشى من خسارة ما بقي من نفوذه إذا اشتعلت معركة ضد إيران. وهي تستطيع قلب الأوضاع في العراق بما يجعل القوات الأمريكية هناك بمثابة رهائن والأمر على نحو أو آخر، وكل المراقبين يلمحون أن الولايات المتحدة تخشى من انقلاب المكونات السياسية العراقية الموالية لإيران إلى حالة عداء للاحتلال وقواته بما ينتج هزيمة قاسية للولايات المتحدة. والأمر نفسه يمكن أن يحدث في أفغانستان وفي بعض الدول التي تتواجد بها قواعد أمريكية في آسيا الوسطى. وفي الخليج يبدو أن إيران صارت تتحدث بلغة القادر على إنهاء التطور الحضاري ومصادر الطاقة في العصر الحديث.. إلخ. وهي إستراتيجية تعتمد على فتح آفاق الصراع بطرق متعددة ومتنوعة إلى أماكن أخرى في العالم، إذ يخشى الغرب من نقل المعركة إلى داخله وإلى مناطق مصالحه في مناطق عديدة من العالم، وهنا أثارت العلاقات الإيرانية مع دول في إفريقيا وفي أمريكا اللاتينية وآسيا قلقا غربيا حقيقيا. فضلا عن إيران صار تهديدها أو تخطيطها بإشعال معركة حاسمة في الإقليم كله ووفق قدرة على تغيير خارطة الشرق الأوسط كليا، أمرا يجعل الغرب في وضع القلق وربما الرعب على مصالحه الثابتة والمستقرة في الشرق الأوسط. ووفقا لمعالم القوة لأوراق الضغط، تعتمد إيران على قوة التهديد وحالات الحركة الميدانية في كل هذا الإطار الواسع، حين تشرع في الإعداد لجولات تفاوض وحين تهدد باحتمالات الرد الحاسم إذا جرى تعرضها لقصف عسكري، في الإعداد للجولات تستعرض إيران أوراق الضغط السياسي في المناطق التي تملك بها أوراق ضغط وتندفع في تكوير برنامجها النووي أو بالإعلان عن تطورات جديدة، بما يجعل المفاوض الغربي واقعا تحت ضغط إستراتيجي، كما تعتمد إيران إستراتيجية التقدم وتطوير الهجوم، ومن ثم تربك إيران خطط خصومها باستمرار وتفرض هي أجندتها على المفاوضات بطريقة أو بأخرى. وهي حين تلمح أن الغرب يميل إلى تصعيد لهجة التهديد العسكري تسارع إلى الإعلان عن تقنيات عسكرية جديدة موجهة بالدقة إلى عوامل التفوق الغربي والإسرائيلي (الطيران– والقصف الصاروخي-والقصف من البحر)، وكل ذلك هو ما يجعل الغرب بلا قدرة على اتخاذ القرار. وهنا فإن خطط التفاوض الإيراني ذاتها هي خطط محكمة ومدققة، إذ كل جولة من الجولات يجري التخطيط لها بدقه، فهناك حرص إيراني على إبداء عدم التصلب الأحمق، كما هناك قدرة على التعامل بمنطق المفاوضات لإحداث أعمق شروخ بين مواقف الدول الغربية ودول العالم المتعددة، فضلا عن التحضير الإعلامي والسياسي والعسكري لكل جولة من الجولات حسب المستهدف منها. الجولة الراهنة في الجولة الراهنة تبدو عوامل القوة لدى طرفي الصراع قد تحددت على نحو كبير وأصبحت في وضع مستقر يقلل من احتمالات وقوع مفاجآت وهو ما يجعل الطرفين أقرب إلى الاستقرار على وضعية الإمساك بالحبل دون محاولة جذب الطرف الآخر وإسقاطه أرضا. من ناحية، يكاد الغرب يكون قد سلم بحق إيران النووي السلمي وصار متراجعا ومتخليا عن حالة العنجهية التي بدا بها مشوار الضغط على إيران، بل يبدو الغرب أكثر استعدادا للاعتراف بالدور الإيراني في الإقليم، كما يبدو الغرب على غير يقين باحتمالات نجاح محاولات سقوط أو تغيير النظام من الداخل كما كان يأمل، ويمكن القول أيضا، إن حالة الضعف الاقتصادي والسياسي والعسكري التي صارت عليها الدول الغربية صارت تجعل الغرب في موضع غير القادر على الاستمرار في خطته بإعطاء أولوية لمسألة البرنامج النووي الإيراني. المؤشرات على ذلك كثيرة، منها الإقبال والإسراع الغربي لبناء المنظومة الصاروخية المضادة للصواريخ المسماة بالدرع الصاروخية وإبداء استعداده لتقديم تنازلات لروسيا في هذا الصدد. ومنها أن الغرب صار قابلا بدرجة أو بأخرى للضغط على إسرائيل من جهة وتكثيف أنماط حمايتها من جهة أخرى. ومنها ما صار يقال صراحة عن الاعتراف بحق إيران في امتلاك برنامج نووي سلمي... وقبل هذا وبعده فإن الغرب يبدو قد خفض درجة اهتمامه بالملف النووي الإيراني وصار أكثر استعدادا للقبول بالتعايش مع إيران والاعتراف لها بمصالح في الإقليم. من ناحية أخرى تبدو إيران، قد صارت في وضع الواثق من قدراته دون رغبة في استفزاز الطرف الآخر، وهو ما يبدو ظاهرا في تقليل التصريحات المهددة والمتوعدة لإسرائيل ودول الخليج، وفي إبداء إيران قدرا متزايدا من الاستعداد للتعاون مع الغرب على أساس اقتسام المصالح، كما الأمر باد في الممارسات الإيرانية في مناطق الصراع الملتهبة في الإقليم (العراق وأفغانستان ولبنان واليمن)، إذ لا تتحرك القوى الموالية لإيران بطرق حادة كما كان جاريا من قبل، وهكذا تبدو أن إيران وكأنها انتهت من إستراتيجية قضم الوقت وصارت تطور أوضاعها على أسس أهدأ من السابق. ذلك لا يأتي فقط جراء تحقيق إيران لنجاحات مهمة هيأت أوضاعا إيجابية، بل هو ناتج أيضاً عن أن إيران لم تعد راغبة في تطوير العقوبات الغربية والدولية ضدها. والقصد أن الجولة الراهنة من المفاوضات تبدو وكأنها جولة إقرار بالأمر الواقع من كلا الطرفين وإعلان بأن كليهما لم يعد راغبا في ممارسة الصراع على الطريقة القديمة. لقد جاءت المفاوضات الحالية بعد نحو 14 شهرا من التوقف. وفي ختامها أعلن عن عقد جولة جديدة هذه المرة في إسطنبول التركية في إشارة للقبول الأوروبي والأمريكي -ولو من حيث الشكل– بدخول أطراف تطمئن لها إيران، وأيضا يحمل الأمر تلميحا بقبول المقترح البرازيلي التركي. لقد اتفقت الدول الكبرى (5+1) وإيران في ختام محادثاتهم على عقد جولة جديدة في مدينة إسطنبول التركية، بما يمثل تغييرا كبيرا في أسس التفاوض لا في مكان التفاوض، كما إيران بالمقابل لم تعد تعتمد لغتها القديمة في التعامل مع الغرب أو التفاوض. هي مرحلة جديدة في التوازن بين طرفي الصراع، فماذا عن المستقبل؟