17 سبتمبر 2025

تسجيل

المتجرد

11 يوليو 2022

لا أعمق من حياة يتصل عاجلها بآجلها بكل صدق، ولا أصدق من إنسان يتصل ظاهره بباطنه بكل شفافية. يصارع المتجرد وسط أمواج عاتية في مجتمع المظاهر والزيف والتملق، يبدو غريباً لأنه واضح وسط غموض يخفي تحته كثيراً من الحيل الاجتماعية، شدة وضوحه تحرج المجتمع، لأنها تتحدث عن الجانب الذي يود المجتمع لو يخفيه أو يتناساه، حياته بسيطة. «أنا كما ترونني، إنسان خطاء، لا أدعي كمالاً ولا أعترف بمحاولة المجتمع ادعاء الكمال، لأنه لن يصله ولن يحققه»، المعنى عند المتجرد أكبر وأعظم من طول الحياة وامتداد العمر، لذلك تراه لا يندم على شيء، فهو مأخوذ باستمرار إلى ما سوف يحدث وليس ما قد حدث. الغربة وطن عند المتجرد حتى وهو في بيته وسط أهله وخلانه، المتجرد لا يشفق كثيراً ليس قسوة في القلب وإنما حدةً في النظر إلى الحياة وطبيعتها، صمته أكثر طويلاً من كلامه، لا يتدخل في شؤون الناس ولا يضع اعتباراً لثرثرتهم، يعيش يومه في تطابق تام مع وجوده، ليست هناك دقيقة واحدة زائدة من الوقت تتجاوز هذا الوجود فتحيله إلى وجود زائف من الثرثرة، عالمه الداخلي أعمق كثيراً من مظهره الخارجي، لا يجاري المجتمع إلا بالقدر الذي لا يفسد عليه تجرده وإحساسه بأنه وجود متزمن. يعيش الزمن في داخله أكثر مما هو يجاري ويسابق الزمن في مروره وعبوره، يعطي وإن كان لا يملك شيئاً، وإن امتلك لا يدخر، الحياة لديه عطاء وليست اكتنازاً مادياً، وهو المتجرد معنوياً، لحظة الصدق عنده ليست موضوعاً للمساومة، يقذفه المجتمع بالمروق وبالخروج عن سياقه الاجتماعي، فينظر إلى المجتمع بشفقة أكبر من نظرة المجتمع إليه، يدرك أن المجتمع لديه ظاهر وباطن ويمارس التورية، بينما هو باطنه ظاهره، من هنا تأتي شفقته على مجتمعه وحزنه عليه. قلبه كبير ومحب وأبيض لأنه يرى الحياة بوضوح أكثر، لا يحمل حقداً ولا كرهاً لأحد، لأن تجرده همش مشاعر الكراهية لديه، بل إنه أصبح موضوعاً لها في أعين الآخرين، أخطاؤه لا يتبرأ منها، شطحاته لا ينكرها هو بشر يعيش الظلال وليس المثال الأفلاطوني، فالظلال ليست سوى صورة مشوهة عن المثال، لكن المجتمع المتصنع يصدر أحكامه عليه انطلاقاً من المثال، ومن هنا تبدو المفارقة ويبدو المتجرد أكثر صدقاً وأعظم التصاقاً بوجوده الإنساني من المجتمع المتكدس عند الوقوف غداً أمام عتبة «الله» خالق الإنسان ومنشئ الوجود.