15 سبتمبر 2025

تسجيل

أفغانستان.. الوجه الجديد 1

11 يونيو 2024

أمضيت أياماً في بلاد الأفغان. استطعت خلالها استعادة علاقات فيزيائية قديمة مع قادة الجهاد الطالباني ضد القوات الغربية والأمريكية في الفترة الواقعة بين 2001- 2021، وأنا الذي غطيت وتابعت جهادهم المزدوج ضد القوات السوفياتية 1979- 1989، وما بعده من حروب المجاهدين، ثم سيطرة حركة طالبان على أفغانستان، وإعلانها الإمارة الإسلامية عام 1996، ثم الجهاد ضد التحالف الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية. البداية كانت من مبنى السفارة الأفغانية في وسط العاصمة الباكستانية إسلام آباد، حيث حصلت على تأشيرة سفر متعددة السفرات إلى كابول، لأسأل عن شركة الطيران المنصوح بالطيران بها، فكانت شركة «كام إير» الباكستانية الخاصة، فاشترى لي أحد أصدقائي التذكرة وتوجهت إلى مطار العاصمة الباكستانية الجديد الذي بدا على الطريق الرئيسي الواصل بين مدينة بيشاور ولاهور، لكنه يبقى على بُعد كيلومترات فقط من إسلام آباد. إذن كانت الرحلة من إسلام آباد التي بُنيت بشكل هندسي جميل، يقطع طرقها شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً دون أي تعرجات، بخلاف المدن العربية والإسلامية العريقة، فأكثر ما تبدو حقيقة عمران المدن من الجو، فالنظر إلى المدينة من الجو أكثر ما يكشفها ويكشف جمالها أو قبحها. يعود بناء المدينة إلى أواخر الستينيات في عهد الجنرال الباكستاني أيوب خان، مما جعلها أكثر عصرية، وخالية من الاختناقات المرورية وحتى البنائية، نظراً لسعة شوارعها، وقلة سكانها، وهي الصورة المختلفة كلياً حين تبدو كابول وأنت قادم إليها من شمالها حيث تبدأ الطائرة بالهبوط تدريجياً، فتظهر لك كابول القابعة كالقصعة وسط جبال تحوط بها من كل مكان، فهذا جبل التلفزيون الذي كان محط تركيزنا كمراسلين خلال فترة حروب المجاهدين البينية، حيث من يسيطر عليه يسيطر على كابول، وتلك مباني ماكروريان التي بناها السوفييت خلال احتلالهم لأفغانستان من أجل موظفي الدولة. كانت المدينة صورة عن المدن العربية والإسلامية التقليدية من الأبنية المزدحمة والمتقاربة بين بعضها بعضاً، فضلاً عن الكثافة السكانية، نظراً لتفضيل السكان العواصم والبلدات الكبيرة على المناطق الريفية النائية. تهبط الطائرة أكثر فأكثر، فيهبط قلبي معها، وكأنه يسابق الزمن، ليرى كابول ويستعيد معها ذكريات دخولها عام 1992 مع المجاهدين الأفغان، يوم كنت أعمل مراسلاً لصحيفة الحياة اللندنية وإذاعة الشرق، ومغطياً لذلك الحدث التاريخي. بدا المطار فقيراً بعدد الطائرات، فلعل الطائرة الرسمية الوحيدة كانت تلك التابعة للخطوط الجوية التركية، ومعها طائرات لخطوط الشركة الأفغانية الرسمية آريانا وهو الاسم القديم لأفغانستان، بالإضافة إلى فلاي دبي. يستقبلنا الحكام الجدد على مدرج الطائرة لينقلونا إلى صالة الشخصيات المهمة، فنستريح قليلاً من رحلة سفر قصيرة، وقصيرة جداً بعرف رحلات الطيران الطويلة وحتى المتوسطة، فالرحلة لم تستغرق أكثر من 45 دقيقة، ولكن تبقى إجراءات السفر والذهاب إلى المطار والانتظار ثم الوصول، كلها إجراءات هي ذاتها، إن كانت الرحلة طويلة جداً، أو لرحلة داخلية قصيرة. أنهينا إجراءات المطار، لتشق سيارتنا مع شابين أفغانيين شارع المطار المتجه إلى السفارة الأمريكية ففندقنا كابول ستار الذي بُني خلال فترة غيبتنا عن العاصمة الأفغانية. كان الطريق شاهداً على أحداث كبار، فهنا قد استهدف تنظيم الدولة، مدخل المطار خلال عملية خروج القوات الأمريكية من أفغانستان، وهناك من قبل كانت السيارات الأمريكية الهامر تسرع وتسرع كما قال مرافقي خوفاً من استهدافها من قبل مسلحي حركة طالبان، خلال فترة الجهاد الأفغاني الثانية... يستذكر الأفغان في كابول الانسحاب على عجل الذي وقع للقوات الأمريكية من العاصمة، وهو ما تسبب في اهتزاز الصورة الأمريكية لدى العالم كله، وأعاد لهم صور انسحاب قوات الأمريكيين المخزية من فيتنام. لكن في مقابل هذا كله ثمة دور خفي قلّما يتحدث عنه الكثيرون وهو الدور الخفي للوساطة القطرية الصامتة التي حفرت جبل العناد الأمريكي - الطالباني بإبرة وعلى مدار سنوات طويلة، وبصمت وتؤدة، ومراعاة لظروف الجانبين، وهو ما أدى إلى توقيع الاتفاق التاريخي بينهما، ليقضي بسحب القوات الأمريكية. هذا الانسحاب أفضى بكل تأكيد كما يرى كل من تابع ويتابع حتى الآن الحدث الأفغاني إلى انتقام حقيقي من قبل الحكم الأفغاني المدعوم أمريكياً يومها بقيادة الرئيس أشرف غني، حين رفض التعاون مع الاتفاق، فآثر الهروب من كابول في ظلمة الليل مما أدى إلى انهيار كل شيء، فوجد الحكام الجدد المتربصون على أطرافها أنفسهم وقد فتحت لهم العاصمة التي لطالما انتظروا دخولها. لقد خلط بذلك أشرف غني كل أوراق الأمريكيين، وجعلهم الثمن وليس من يدفعون الثمن نظير تجاهلهم وتخطيهم له ولزمرته الحاكمة. يروي لي صديق أفغاني ممن دخل القصر الرئاسي حال مغادرة الرئيس له قصة ذات دلالة، وهي أنه حين دخل مكتب الرئيس الأفغاني أشرف غني، فوجئ وذُهل بأن الكتاب الأخير الذي كان يقرأه في تلك الأيام مذكرات المغني الأفغاني الشهير ناشناس، مما عنى أن الرئيس لم يكن يعنيه كل ما يجري، إما لأنه معتمدٌ على القوات الأمريكية، أو لأنه مثقف أكاديمي كعادة كثير من الأكاديميين المفصولين ربما عن اشتراطات الحكم، وأدواته ومعاركه الداخلية والخارجية. في الحلقات المقبلة سأحاول رسم صورة قريبة عن العاصمة كابول، وما يجري فيها من معارك وسجالات، إن كان على مستوى الداخل، وآمال الحكام الجدد، وما حققوه وفعلوه طوال ثلاث سنوات من الحكم والسيطرة، أو على صعيد العلاقات الإقليمية والدولية، وما أفرزته من توترات مع باكستان وطاجكستان، وغيرهما، ومعه تحرك الديبلوماسية القطرية من أجل تسوية التوتر بين كابول وإسلام آباد، حيث سبق وصولي إليها، وجود وزير الدولة القطري للشؤون الخارحية قادماً من إسلام آباد كما أبلغني وزير الدفاع الأفغاني نفسه محمد يعقوب. قضايا كثيرة ستتناولها الحلقات المقبلة، من معركة الحكام الجدد مع الاقتصاد والاستثمار، إلى العلاقة مع المعارضة، والشعب، فضلاً عن العلاقة مع المحيط الإقليمي ومن خلفه الدولي، بالإضافة إلى ما يثير اهتمام الجميع وهو تعليم المرأة، فقد كان ذلك كله حصيلة لقاءات مع قادة كابول الجدد. نأمل من خلال المقالات المقبلة أن نقترب ويقترب معنا القارئ أكثر من أفغانستان، حيث جناح مهم للأمن الإقليمي العربي والإسلامي، بل وربما للعالم كله الذي سيظل يستذكر أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001، ولذا لا يمكن تجاهل الجرح الأفغاني، فتجاهله يعني تلوثه، وتلوثه يعني تعديه إلى ما بعده من جار قريب أو أبعد.