18 سبتمبر 2025

تسجيل

آلام الطفرة

11 يونيو 2019

أبهرت الشخصية القطرية في السنوات القليلة الماضية العالم، فمن جهة قطر من أصغر دول العالم مساحة وسكانا، ومن جهة أخرى أكثر البلدان تأثيرا وصخبا إعلاميا تكاد تكون قبلة المتخاصمين والمتآلفين كذلك. برزت شخصيات قطرية على المستوى الاقليمي والعالمي ولا يزال تأثير بعضها فعالا واسما مدويا في دهاليز السياسة والاقتصاد على الصعيد العالمي. تشكلت الشخصية القطرية عبر انسياب تاريخي من شظف العيش في الصحراء وقيمها الى ريع النفط وتأثيراته الجانبية، ومن سماحة الدين الى التعايش مع تلاوين الدين السياسي في سباته وفي يقظته. وفي الحديث عن الخصائص العامة للشخصية القطرية تبرز فكرة «التلقائية» كفكرة محورية في التعامل مع الأحداث، تلقائية رجل الصحراء الموقن بعدالة السماء والمتوكل على الله في جميع أفعاله وخطواته. أحدث قيام الدولة سياقا آخر الى جانب سمات الشخصية القطرية لتمرير وجود الدولة فكان محاذيا لها ولم ينشأ من طبيعتها وإنما لبسته لباسا، جعل من السهل لاحقا أن تبرز تضاريسها بشكل أكثر حدة بعدما تراجعت فكرة الوطنية من الاذهان بتأثير الريع وسرعة السير والقفز احيانا لتحقيق أهداف كبيرة وضخمة لا تتماثل وحجم وعدد السكان. سياق الدولة كان له المجال بعد الاستقلال، فظهرت طبقة وسطى حكومية هشة، تحمل قيما اجتماعية وتتمتع بقدر من الاستقلال الثقافي والمادي الى حد ما بموافقة الدولة، وبرزت مؤسسات الدولة الحكومية وطبقة من موظفي الدولة الكبار لهم مكانتهم وأماكنهم الرسمية والترفيهية وتميزت هذه الفترة بتدرج في التغيرات فمثلت حقبة من الاستقرار على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي. إلا انه بعد ذلك حصل تغير راديكالي كبير في التحول من قيم المدينة التي زرعتها الدولة مع بداية قيامها الى قيم الريف والبداوة فنزحت عقلية الخيمة الضيقة إلى المدينة أو جرى بالاحرى خيمنة المدينة. ولا يستطيع أحد أن ينكر دور القبيلة في مجتمعاتنا العربية قاطبة، ولكن قيم القبيلة أسمى شأنا من كثير من قيم البداوة ويلاحظ بعد ذلك غياب أو تراجع ظهور سياق الدولة كما هو في السبعينات والثمانينات من القرن المنصرم أمام سياق التراث الذي لم نستطع تحديده بصورة مثلى تجعل منه معاصرا ضمن قيم الدولة، مما ادى الى تغير واضح في سمات الشخصية القطرية، فتغلبت قيم التراث في صورتها البدوية على قيم المدينة، وأصبحت صفة التحضر تقترن بالبحر وأهله ونشاطاته، ولم يكن هناك ربط واضح لقيم الانتاج ضمن الشخصية القطرية الجديدة وانما استعيض عنها بممارسة هوايات التراث التي كانت يوما تعد اعمالا إنتاجية. فبرزت قيم انتهازية جديدة للتحايل للوصول الى مصادر الريع، وسيطر فكر الغنيمة على المجتمع طالما كان الموضوع مجرد إعادة لا إنتاج وتوزيع لا استنبات وزرع. وكانت مثل هذه القيم التي هي قيم انتاجية في السابق إلا انها اليوم عملت على تكريس ثقافة الغنيمة اكثر من ذي قبل. مع تراجع دور الوظيفة الحكومية امام الوظائف الانتهازية كذلك برز مفهوم آخر هو مفهوم الهيمنة ليس في المجال الاقتصادي والمالي، حيث الريع المادي بل في المجال الاجتماعي كذلك فلم يكتف الفرد بالعائلة ولا بالقبيلة بل الى المرجعية القبلية الاولى في قبائل الجزيرة الكبرى فاصبحنا أمام ريع اجتماعي لا ينضب. في حين اصبحت العلاقات عمودية بشكل كبير داخل المجتمع، حيث أفرزت العلاقة الجديدة المتكونة من ثنائية الريع الاقتصادي والريع الاجتماعي الذي ذكرت نمطا في العلاقة العمودية القائمة على مستوى الاستفادة بين اطرافها بحيث يتسع المجال لريوع اقتصادية واجتماعية جديدة كلما تضخمت المنفعة بين اطراف العلاقة، لذلك رأينا فقاعات اقتصادية كبيرة تتكون في يوم وليلة ويزداد تأثيرها يوما بعد آخر داخليا واقليميا وعالميا. فانضوت الدولة داخل هذه العلاقات بشكل خجول وبدا موظفها أقل من أن يذكر أو أن يشار إليه، مما افقد المجتمع خاصية التراكم الاداري القادر على التشغيل الذاتي، فالجميع يتعامل او يريد التعامل مع قمة الهرم مباشرة، مما أفقد الادارة خاصيتها في التراكم الايجابي للخبرة والانتاجية، ثم تصاب الذاكرة الجماعية في مقتل بعد إزالة فرجان تاريخية بأكملها ويبقى انسانها محتفظا بذاكرته الى حين ثم ينتهي التاريخ ليبدأ من جديد مع جيل آخر، بلا شواهد تاريخية لأجياله السابقة، الأمر الذي يجعله في موقف لا يحسد عليه امام المقيم الجديد الذي اصبح مساويا له ما عدا ما يمتلكه من ألبوم صور وما يعلق في ذاكرته من مخيلة وتصورات عن معالم ماض لم يعد له شواهد. [email protected]