29 أكتوبر 2025
تسجيلكانت القبائل البدوية في ما مضى من بدايات القرن العشرين والقرن التاسع عشر تتقاتل وتغزو بعضها طلبا في الأساس للسيطرة على مصادر المياه، ولنا في قبائل بدو الشام والأردن مثال لا يزال شاهدا، في سيطرة القبائل البدوية الرعوية آنذاك على منابع المياه، والتي تشرح بالتالي الخارطة الحياتية للبشر في منطقة هي من أفقر بلاد العالم بالمياه، وكما هو حال تلك القبائل، هو حال الدول اليوم خصوصا تلك التي تفتقر إلى مصادر المياه، فهي تحاول بشتى الطرق الحصول عليها، وتوفيرها للاستخدامات المتنوعة وعلى رأسها مياه الشرب والزراعة، ولكن هل ستبقى الأمور كما هي عليه في ظل المتغيرات السياسية والاقتصادية للدول " المصدرة للمياه "، عن طريق أنهارها الدولية؟! ما يثير الحديث هو إعلان إثيوبيا البدء بإنشاء مشروع " سد النهضة الإثيوبي" كأكبر سد في إفريقيا والتي أعلنت عنه عام 2011 والذي سيعتمد في الأساس وكليا على مياه نهر النيل الأزرق، وستحول مجاريه عبر إثيوبيا إلى منطقة " وادي أومو الأدنى" التي تتركز جهود الحكومة الإثيوبية فيه على ما تسميه النهضة التنموية، من خلال استغلال الأراضي هناك لإقامة مشاريع ضخمة كمزارع السكر، ومصانع لتكرير السكر وتصديره، ثم جاءت فكرة إقامة أكبر محطة توليد للكهرباء في إفريقيا في تلك المنطقة، وحتما سيشكل هذا العمل إضرارا بالغا بدول المجرى والمصب كالسودان ومصر، ولم تخف الأخيرة مخاوفها من أن المشروع سيكون بمثابة نهاية العصر الذهبي لنهر النيل المصري العابر للدول الإفريقية، بعيدا عن تهديد 160 مليون إنسان يعيشون على ضفاف النيل. المشروع الكهرومائي الإثيوبي هو حربة اقتصادية وتنموية ستطعن في خاصرة الشمال العربي في إفريقيا، مصر والسودان، ومع انشغال السودان بمشاكله مع جنوبه الذي تخلى عنه، تبقى مصر في مواجهة التحدي القادم، ولكن السؤال هنا: أين إسرائيل من هذه المشاريع؟ والجواب أنها حاضرة وبقوة في كل مكان قد يحاصر هذه الأمة المنشغلة بقتل نفسها دون أن تعلم، فإسرائيل قد اخترقت إثيوبيا وباتت تسيطر عليها منذ زمن بعيد، ولا أعتقد أن مثل هذا المشروع بعيد عن المرامي الإسرائيلية، فلها كل المصلحة في فتح أسواق تكنولوجية في بلد لا يزال بكرا أمام الحضارة التكنولوجية العالمية، والمصلحة الأهم هي الإحاطة أو خنق مصر مائيا، كخطة إستراتيجية تتجاوز الحرب العسكرية. إذا دول المنابع هي من تتحكم بالمياه، وهذا ما رأيناه في تركيا فسد أتاتورك الذي افتتح عام 1992 على نهر الفرات، فقد قامت تركيا بإقامة السد حجز مئات الملايين من الأمتار المائية عن العراق مثلا، وجزءا من سوريا، وكذلك تسيطر القوة المحتلة الإسرائيلية على نهر اليرموك وبحيرة طبرية في وادي الأردن، وهي تتحكم بحصة الأردن من المياه، واكتملت الحلقة اليوم بالسيطرة الإثيوبية ولفت النيل حول رقبة مصر، والعرب للأسف لا يناقشون هذه القضايا الحساسة التي تتعلق بإكسير حياتهم. إن إقامة مشروع مائي عربي كبير يعادل السدود التي تبنى شمالا وجنوبا منه، ويوفر له كميات وافرة من المياه، يعد إنجازا إستراتيجيا يعادل حضارة العرب منذ قيامهم، ويعادل استقلالهم، ويضعهم على الخارطة الإنتاجية من جديد، لتعدد المناخ في وطننا العربي دون النظر إلى الحدود السياسية التي تفصل دولنا، وإلا فلنستعد لخوض حروب مائية طويلة مع دول منابع المياه إذا استطعنا ذلك.