19 سبتمبر 2025

تسجيل

التراث بين ضرورة النقد ورهبة التقديس

11 مايو 2020

هناك جانبان لتشخيص إشكالاتنا مع التراث. الجانب الأول: نفسي ؛ فالتراث بشقيه المادي والمعنوي ذاكرة للأمة، والذاكرة في الأساس قدرة على استرجاع أحداث الماضي، ولكن قد تحتل الحاضر أو معظمه كذلك؛ إذا ما أصبحت هاجساً وأصبح الحاضر فضاءً فارغاً لا يملؤه شيء يذكر. عدم تبلور آلية للتعامل مع هذا التراث بالشكل الذي يجعل منه ذا نفع ؛ بحكم أنه ماضٍ يستفاد منه لا أن يُعاش، وبحكم أن الأشياء لا تُؤخذ بشكل شمولي غثها وسمينها. وآلية التعامل مع التراث تتطلب عنصرين مهمين لتحقيق الغرض المرجو منهما وهما: المسافة اللازمة للحكم على الأشياء والنظرة النقدية، وليس النظرة النوستالجية المتشوقة أو الحنين إلى الماضي، وعدم تحقق هذين العنصرين في تعاملنا مع تراثنا أصبح عبئاً على حاضرنا وشغل يومنا وغدنا. إن دراسة أي شيء تتطلب حيادية الدارس أمام الموضوع الذى يراد دراسته، وتتطلب الفصل بين الذات الدارسة والذات المدروسة. نحن ندرس الماضي والتراث ونحن نعايشهما بشوق كبير، نلتصق بالماضي حفظاً لذاتنا الضائعة وخوفاً عليها من الاندثار، نتشوق إلى الماضي وتراثه بحنين يفوق حنين الأم إلى وليدها الرضيع، لأن الحاضر مرعب ولا ندرك من أشيائه الكبرى أو الصغرى ذرة ً تطمئننا أو تهدئ من روعنا. أية موضوعية نتقصاها بعد ذلك، نحن نذوب في ماضينا كما يذوب الملح في الماء، وننزوي في أركانه وزواياه كما ينزوي الخائف من أشعة الشمس أو برد الشتاء. إن انتصار نظرة التقديس للماضي وتراثه على تيار النظرة النقدية الفاحصة له كان لها الأثر الكبير في تراجع دور هذه الأمة بين الأمم. قد تجنح النظرة النقدية نحو التحامل قليلاً، ولكن لا يمكن الاستغناء عنها بأي حال من الأحوال. ما نمارسه اليوم في حاضرنا عندما نحاول استعادة الماضي وتراثه العريق تحت العديد من الشعارات، سواء أكانت دينية أم قومية أم غير ذلك، هو قمة التقديس لـه. لقد أباد بُول بُوت نصف شعبه الكمبودي في محاولة لاستعادة تاريخه، ومزق صدام حسين العراق وجيرانه في محاولة لاستعادة تاريخ بنوخذ نصر وقادسية العرب. لقد كان اقتحام الحاضر بأسلحة الماضي وبالاً على الأمة؛ لأننا لم نفرق بين عناصر الزمن الثلاثة: الماضي والحاضر والمستقبل. لقد كانت قلوبنا غُلفا ونحن نقف أمام النقد ونعتبره سباً وهجاءً؛ لأن قاموسنا اللغوي لا يعرف كلمة النقد، وملئ بأبواب السب والهجاء إلى جانب المدح المبتذل. [email protected]