10 سبتمبر 2025

تسجيل

المقومات الأخلاقية لحضارتنا (3)

11 أبريل 2012

تكملة لما بدأنا من ذكر المقومات الأخلاقية لحضارتنا الإسلامية والتي ننطلق منها في رياح التغيير نحو حضارة إسلامية رائدة ومبدعة تتفق مع رياح الربيع العربي ليكون ربيعا في تألقه وحضارته وتغييره لا مجرد انقلابات لا تغير الواقع ولا تتجه نحو أهداف حقيقية. وقد مررنا على مقومات أخلاقية ثلاث وها نحن نكمل ما بدأناه رابعاً- الإبداع المحكوم بالاتباع الإبداع أمر رائع وعظيم، وأعطيه وزناً كبيراً في عملية النهضة، ولا يمكن لحضارة أن تقوم وتستمر بلا إبداع، والإبداع ببساطة هو عملية الإتيان بجديد، فحضارتنا الإسلامية أساسها الفكر، لذا فهي تشجع الإبداع وكل ما هو جديد، وتضع له ضوابط تعصمه من الزلل، وقواعد تمنعه من الانحراف، ومن تلك الضوابط ألا يخرج عن حدود الشرع، هذا في حضارتنا الإسلامية، أما في الحضارات الأخرى فلا يوجد عندها ما تضبط به حركة الإبداع. الإسلام لا يحد من التفكير المبدع، فاذهب – إن شئت- بعيداً في تفكيرك وأفكارك، ولكن حتى يكون لتفكيرك قيمة، ينبغي أن يكون منضبطاً بالقواعد المنهجية للتفكير، وبضوابط المنهج العلمي، حتى لا يكون مجرد أحلام، وخيالات وأوهام. الإبداع وسيلة الإبداع في الإسلام وسيلة وليس هدفاً، أما في الغرب فهو غاية بحدّ ذاته، فالإبداع لأجل الإبداع، والتغيير لأجل التغيير، بغض النظر أوافق القيم أو خالفها، أنتصر للفضيلة أم للرذيلة، والسؤال الذي يطرح نفسه: هل كل إبداع مباح..؟ وهل كل إبداع محترم ومقدّر..؟ الإسلام يعطيك القواعد المرشدة للتفكير، ثم يطلق لإبداعك العنان، يقول لك فكّر كما شئت، ولكن إيّاك أن تخالف نتائج فكرك القرآنَ الكريم أو الأحاديث الصحيحة الثابتة. وفي القضاء هناك مجال للاجتهاد، لكنه اجتهاد منضبط بآيات القرآن الكريم، وصحيح السنة النبوية، ولا تخالف أحكامه مقاصد الشريعة الإسلامية. منهجية القضاء لقد أوضح عمر بن الخطاب (منهجية القضاء، وأن الاجتهاد مكانه بعد النظر في كتاب الله تعالى وسنة نبيه(، وليس قبل ذلك، لأنه اجتهاد محكوم بالاتباع. تروي كتب السنة أن عمر بن الخطّاب (عيّن شريحاً قاضياً، ثم كتب إليه موصياً ((إِذَا جَاءَكَ أَمْرٌ في كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَاقْضِ بِهِ وَلاَ يَلْفِتَنَّكَ عَنْهُ الرِّجَالُ، فَإِنْ أَتَاكَ مَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَانْظُرْ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ (فَاقْضِ بِهَا، فَإِنْ جَاءَكَ مَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ سُنَّةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ (، فَانْظُرْ مَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ فَخُذْ بِهِ، فَإِنْ جَاءَكَ مَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ سُنَّةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ (وَلَمْ يَتَكَلَّمْ فِيهِ أَحَدٌ قَبْلَكَ، فَاخْتَرْ أَيَّ الأمريْنِ شئتَ إِنْ شئتَ أَنْ تَجْتَهِدَ بِرَأْيِكَ ثُمَّ تَقَدَّمَ فَتَقَدَّمْ، وَإِنْ شئتَ أَنْ تَأَخَّرَ فَتَأَخَّرْ وَلاَ أَرَى التَّأَخُّرَ إِلاَّ خَيْرًا لَكَ)) رواه النسائي في السنن الصغرى. تفكير ملتزم بالأصول.. منفتح على الثقافات الأخرى منهجية الإسلام تقوم على التفكير الملتزم بالثوابت والأصول، وفي الوقت نفسه تقوم على الانفتاح على الأفكار والثقافات الأخرى، والاستفادة منها، طالما أنها لا تتعارض مع أحكام الشريعة ومقاصدها، وبمثل هذه المنهجية أنتجت حضارة الإسلام إبداعات كثيرة، كانت قمة في الروعة والعظمة، ومن تلك الإبداعات العسكرية " حفر الخندق " وهي حيلة لم تعرفها العرب، وأسلوب عسكري غريب عنهم، لذا لما وقف فَوارِسُ مِن قُريش على الخندق قالوا: إن هذه مَكيدةٌ ما كانت العربُ تعرِفُها ". وهذه المكيدة تعلّمها النبي (من " سلمان الفارسي " وفعلُ النبي (يدلّ على أن مجتمع المسلمين آنذاك كان منفتحاً على الثقافات الأخرى، وأن الإسلام يرحب بكل إبداع وكل جديد، ما لم يخالف مقاصد الشريعة الإسلامية وأحكامها. من إبداعات المسلمين لمّـا فهم المسلمون هذه المنهجية، أبدعوا إبداعات غير عادية، ومن ذلك: * إبداع القاضي أبي يوسف في كتابه الخراج، الذي يعتبر أول كتاب يتحدث عن السياسة المالية للدولة. * إبداع الإمام الشافعي في كتابه " الرسالة " الذي هو أول كتاب يوضع فيه علم أصول الفقه. * أبدع العلماء المسلمون علمَ الجرح والتعديل، الذي لا يوجد في حضارة أخرى مثيل له. * إبداع " الجويني " في كتابه " غياث الأمم " الذي يُعدّ أول كتاب في العالم يتحدث عن علم المستقبليات وإدارة الأزمات. أبدع العلماء المسلمون منهجية في التوصل إلى العلم التجريبي الرصين، القائم على الفرضية والبرهان، والمشاهدة والتجريب *أبدع المسلمون فكرة الفرق العلمية، حيث يكوّن الباحثون فريقاً علمياً متكاملاً، يشتمل على أكثر من تخصص، وأكثر من عالم، لتكون النتيجة عملاً متكاملاً مدروساً من كل النواحي الفرق بين الإبداع وحكم الإبداع الكثير لا يفرّق بين الإبداع وحكم الإبداع، وللتوضيح نضرب المثال التالي، لنفترض أنا فتاة قامت بتصميم ملابس بشكل مبدع غير مسبوق، فإن فعلها هذا يسمى إبداعاً لأنه شيء جديد ملموس، فإذا كانت الملابس مما يكشف العورات، ولا يحقق الستر، فتصبح إبداعاً حراماً، فهي إبداع لكنه إبداع حرام. أيضاً لنتخيل أن سيدة تمتلك مهارة في " الطبخ " فاخترعت أكلة جديدة لم يسبقها إليها أحد، ففعلها هذه يسمى إبداعاً لأنه شيء جديد، لكن لو استعملت الخمر في هذه الأكلة، صار الإبداع حراماً. وهكذا نرى أن الإبداع عند المسلمين محكوم بالاتباع وبشرع الله عز وجل، أما في الغرب فلا ضوابط للإبداع، وليس هناك إبداع حرام وآخر حلال.