10 سبتمبر 2025

تسجيل

البابا يقف على أنقاض بغداد

11 مارس 2021

ماذا كان يتوقع البابا فرانسيس بابا الكنيسة الكاثوليكية ان يرى أثناء زيارته التاريخية للعراق الجريح الذي انهكته الحروب ومزقته الصراعات، وهل ستضمد رسالة المحبة والسلام التي حملها في زيارته التي اختتمها يوم الاثنين الماضي جروح العراق الغائرة؟، وما طبيعة رسالة التسامح والاخاء تلك. بحسب ما أوردته تقارير إخبارية وتحليلات، فإن من ضمن الأهداف التي حملتها زيارة البابا فرانسيس للعراق والتي جاءت في وقت حرج، الوقوف على وضع الأقليات المسيحية هناك والتضامن معهم والشد من ازرهم، وقد صرح البابا في احدى جولاته في العراق قائلاً " إن التناقص المأساوي في أعداد تلاميذ المسيح، هنا وفي جميع أنحاء الشرق الأوسط إنما هو ضرر جسيم لا يمكن تقديره". وبحسب ما تبينه الاحصائيات، فإن أعداد مسيحيي العراق اخذت في التناقص بعد الغزو الأمريكي للعراق، ذلك الغزو الذي وصفه الرئيس الأسبق للولايات المتحدة الامريكية بوش الابن يوماً ما بأنه يمهد لـ "عودة المسيح" اما الجماعات الإرهابية المتهمة بتصفية مسيحيي الشرق الأوسط سواء في سوريا او العراق فلم تكن سوى افراز لما سمي بالحرب على الإرهاب، والتي وصفها بوش هي الاخرى بأنها" حرب صليبية"، وعليه ألم يكن من الاجدر بالبابا أن يحمل رسالته وييمم وجهه شطر البيت الأبيض ليحل السلام والوئام في الشرق الأوسط؟ إن نيران الحروب المستعرة في الشرق الأوسط والتي جاء البابا محاولا اخمادها لتكون برداً وسلاماً على تلاميذ المسيح، وفي الوقت الذي ندرك فيه مدى تعقدها واشتباكها بمصالح أطراف عديدة وتعقيدات سياسية كبيرة، الا انه ينبغي ألا نغفل عن حقيقة ان جزءًا من تلك الصراعات الدموية اذكتها ايادي اليمين المسيحي ذو النفوذ المتنامي في الولايات المتحدة الامريكية والغرب عموماً. وفي هذا الصدد فمن المستبعد جداً ان يكون قداسة البابا غافلاً عن مفهوم "الحرب العادلة" الذي تسترشد به تلك الأحزاب اليمينية، لتبرير الحروب أخلاقيا بحجة إقامة العدل وإيقاف الضرر والتبشير بالسلام والتعايش بين الأمم، ويمكننا ان نتساءل هنا عن العدالة التي حققتها الحروب للشعبين الافغاني والعراقي وغيرهما من شعوب الأرض المطحونة. لقد ضلل قادة الاحزاب المسيحية اليمينية اتباعهم والرأي العام من دافعي الضرائب ليحصلوا على التأييد والمباركة ليخوضوا الحروب التي لا تبقي ولا تذر تحت حجج واهية وعدالة موهومة، ولم يتساءل العالم بعد كم الدمار الذي خلفته تلك الحروب كما لم يتساءل البابا نفسه عن مزاعم امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل التي كان يعمل على تطويرها ويخفيها عن العالم! والتي كانت سببا "وجيها" لتدمير العراق ونهب ثرواته لما يقارب من عشرين عاما! لا يمثل العراق مهد الحضارة وحسب، بل انه مهد التوحيد " الابراهيمي" ومنبعه على اعتبار صحة الرواية التي ترى ان مسقط رأس النبي إبراهيم عليه السلام كان ضمن أراضي العراق اليوم، الا انه" أي العراق" يعاني ما يعانيه ككثير من دول المنطقة من حروب ونزاعات وطائفية، والمعاناة التي تعانيها شعوب تلك الدول ليست محصورة على الأقليات الدينية والطوائف وحسب ليأتي من يطالب بحمايتهم في منطقة يموج بها الصراع والتطرف ويغمرها من كل حدب وصوب، وعلى ان رسالة البابا في إحلال السلام مقدرة ومرحب بها الا انه من حقنا ان نتساءل هنا عن ماهية تلك الزيارة، وان ننتهز الفرصة لنذكّر أيضا بوضع الأقليات في الغرب الأقرب الى قداسة البابا من العراق. تعاني الأقليات في دول الغرب من إشكالات، قد لاتصل للدرجة نفسها من المعاناة التي تعانيها أقليات الشرق الأوسط كون المنطقة تجثم على مستودعات الطاقة والثروات وبالتالي فهي تمثل بؤرة للصراع الذي يدفع ثمنه المستضعفون، إلا ان الحقيقة المرة هي أن معاناة الأقليات في دول الغرب نابعة عن التعصب الأعمى لليمينية المتطرفة بقيادة مسيحيين متعصبين، فهل يحمل البابا رسالة سلام ومحبة لأولئك المستضعفين في الأرض، اخذا بالاعتبار ان أكثر المدافعين عن الأقليات في تلك الدول يأتون من خلفيات ليبرالية وأحزاب يسارية، في حين أن الاضطهاد في غالبه الأعم يأتي من المتطرفين الدينيين. ثم ماذا عن الأزمة التي تعيشها المسيحية في الغرب والمتمثلة في انحسار تأثير الكنيسة على اتباعها، ناهيك عن الكنائس المشرقية المنبوذة أساسا من قبل الكنيسة الكاثوليكية، وفي الوقت الذي يزور فيه البابا مسيحيي الشرق الأوسط ويتضامن معهم نجد ان الكاثوليك يشكلون اقلية وسط الأقليات في تلك المناطق. فهل يعد ذلك لجوءًا عند الحاجة " كعادة الكاثوليكية" لكنائس المشرق، أم أن البابا خلع عباءة الدين وارتدى معطف الدفاع عن حقوق الأقليات والمطالبة بحقوق الانسان. في مقابل تلك التساؤلات، لابد أن نقرأ زيارة البابا لمدينة أور الأثرية و"الحج" اليها على اعتبار انها مسقط رأس النبي إبراهيم عليه السلام بتأنٍ وروية، فهل تأتي تلك الزيارة في إطار التأسيس لمحج في تلك المنطقة ليأتيها الحجاج "الابراهيميون" كما يوصفون، من كل فج عميق؟ ثم ماذا عن الشكوك التي ابداها كثيرون حول ما يتعلق "بالدعوة الابراهيمية" وهل يدعم البابا تلك المساعي لتوحيد اتباع الديانات الابراهيمية والتأسيس لعصر جديد يتّحدون فيه، ليس بهدف تشكيل قوة يخشى جانبها والتأسيس لتعاون مثمر، بل ربما لتسهيل انصياعهم في ظل متطلبات زمن العولمة الذي لا يستوعب الاختلاف وليس لديه الوقت للحوار والاقناع. أم ان تلك الزيارة ربما تهدف لما هو ابعد بحسب ما يذهب اليه البعض وذلك للتمهيد لفصل محافظة "ذي قار" عن الجسد العراقي الممزق والمنهك؟ في محاولة للحصول على قطعة من الكعكة العراقية يستأثر بها المسيحيون؟ كل تلك التساؤلات لا يمكن الجزم بإجابتها إلا انها تبقى أسئلة مطروحة ومفتوحة. ما أحوجنا اليوم لـ"بابا" يطالب بحقوق المستضعفين ويحمل رسائل السلام والمحبة والإخاء ويحلق بها في اصقاع المعمورة ويحط رحاله في خليج غوانتانامو ليطالب بحقوق الاقلية المستضعفة التي تقبع في السجون لما يقرب من عشرين عاماً كضحايا "للـحروب المقدسة"، لينادي بإنصاف الأقليات والمستضعفين ويطالب بحقوقهم ليعيشوا بسلام ووئام دون عنصرية او بغضاء او كراهية. وعوضاً عن ان يقف البابا على أنقاض دولنا بحثاً عن موقع معركة "هرمجدون " منتظرا عودة المسيح، كان الأحرى بالمؤسسة الدينية الكاثوليكية السعي لبلورة خطاب معتدل ينبذ التطرف أيا كان نوعه وشكله وخلفيته الدينية، ويعزز النزعة الإنسانية ويدين التطرف اليميني ويكبح جماحه، بدل أن ينشغل الفاتيكان بكيفية تعميد الكائنات الفضائية وهدايتها لنور المسيحية عندما تزور كوكبنا الصغير!.