12 سبتمبر 2025
تسجيل..... نواصل الحديث حول كتاب «ولدت هناك ولدت هنا» لمؤلفه: مريد البرغوثي. يقف الأديب على سور عكا، وعلى الفور تقف أمامه «وفي صف واحد علامات استفهام متجهة اتجاهاً واحداً: كيف ضاع بلد كهذا؟». لكنه يعود ليقول في محاولة إقناع ذاتية «بعض الأوطان هكذا: الدخول إليه صعب، الخروج منه صعب، البقاء فيه صعب.. وليس لك وطن سواه». وفي ذكر الوطن الذي لا ينقطع، لا يعتقد الأديب في فلسطين والحرب التي كُتبت عليها، ما يحكيه التاريخ عن بقية الحروب، إذ إن «فلسطين لم تسقط في حرب ذات بداية ونهاية كالحروب التي نعرفها! الحروب الكبيرة والحروب الصغيرة تبدأ ثم تنتهي، من حرب طروادة إلى فيتنام إلى الحرب العالمية الثانية...إلخ، وبوضوح يليق بالعقل البشري تعرف أنك خسرت، أو تعرف أنك انتصرت، ثم تفكر في الخطوة التالية وينتهي الأمر». فكيف الأمر هو إذاً؟ يستشيط الأديب غضباً وهو يكيل اللوم للأمة التي غلب نعاسها يقظتها على حين غرّة، فيستمر قائلاً: «لم تأتِ بوارج الجيوش اليهودية وتدكّ هذا السور وتقتحمه على أهل عكا.. ها هو في مكانه منذ كان وكما كان! لم تقم قوة بمحاصرة جيش فلسطيني ليرفع لها الرايات البيضاء وينتهي الأمر برابح نهائي وخاسر نهائي. أقول فلسطين ضاعت نعاساً وغفلة واحتيالاً! في كل يقظة حاولناها، وجدنا موتنا ورحيلنا الموحش إلى المنافي والمنابذ والأخطاء. نعم الأخطاء.. ونحن لا نزال نخطئ حتى الآن! كل هذا تم ببطء يبعث على الرهبة. كيف تنعس أمة بأكملها؟ كيف غفلنا إلى ذلك الحد بحيث أصبح وطننا وطنهم؟». لذا، لا للاستسلام، إذ لم تكن هناك حرب هُزم فيها الفلسطينيون، ولا للمهادنة، فليست فلسطين قضية تُسوّى بالجدال! فيقول في قسوة أشد: «نحن لم نخسر فلسطين في حرب بحيث نتصرف الآن كمهزومين.. ونحن لم نخسر فلسطين في مباراة للمنطق بحيث نستردها بالبراهين». وللأديب من الذائقة -ليست بالضرورة أدبية ولا لغوية ولا شعرية ولا فنية- ما ترتبط بالتوقيت! إنها القهوة، أو توقيت القهوة! وهو إذ يعتبر قهوة القراءة غير قهوة الكتابة، فهناك الشقراء منها والمحروقة وهناك وسط بينهما، ومنها ما هو للتعارف أو للتصالح أو لطلب حاجة، وهي ليست على الموقد كما هي من آلة التحضير، وهي من وجه صبوح عن وجه نكد تختلف، وهي تقدّم في العرس خلاف ما تقدّم في العزاء، وإن كانت دعوة شربها مصاحبة لكلمة «عندنا» فهي في الحقيقة دعوة للخطف أو للقتل، غير أن «الغبي هو من يطمئن لقهوة الحكومة». يستمر الأديب في خواطره عن القهوة التي هي -ولا عجب- رديف لكل أديب: «يختلف الناس في سر القهوة وتختلف آراؤهم: الرائحة، اللون، المذاق، القوام، الخلطة، الهال، درجة التحميص، شكل الفنجان، وغير ذلك من الصفات. أما أنا فأرى أنه التوقيت. أعظم ما في القهوة التوقيت، أن تجدها في يدك فور تتمناها. فمن أجمل أناقات العيش، تلك اللحظة التي يتحول فيها ترف صغير إلى ضرورة. والقهوة يجب أن يقدمها لك شخص ما.. القهوة كالورد، فالورد يقدمه لك سواك، ولا أحد يقدم ورداً لنفسه. وإن أعددتها لنفسك فأنت لحظتها في عزلة حرة بلا عاشق أو عزيز، غريب في مكانك، وإن كان هذا اختياراً فأنت تدفع ثمن حريتك، وإن كان اضطراراً فأنت في حاجة إلى جرس الباب». وعن ذائقة أخرى، يُطري الأديب شجرة تباركها الأديان السماوية، وتمثّل لكل فلسطيني معنى التجذّر في الأرض، فلا تُذكر أرض فلسطين حتى يُذكر الزيتون. يقول الأديب: «الزيتون في فلسطين ليس مجرد ملكية زراعية، إنه كرامة الناس، هو نشرة أخبارهم الشفهية، حديث مضافاتهم في ليالي السمر، بنكهم المركزي ساعة حساب الربح والخسارة، نجم موائدهم ورفيق لقمتهم. هو بطاقة الهوية التي لا تحتاج إلى أختام ولا صور ولا تنتهي صلاحيتها بموت صاحبها! تظل تدل عليه، تحفظ اسمه وتباركه مع كل حفيد جديد وكل موسم جديد». أخيراً، وإن كانت سيرة ذاتية لأديب راحل، يشوبها الكثير من الأدب والحكمة والشاعرية وشظف العيش الممتد، فهي تشبه في تفاصيلها روايات كثير ممن رحلوا وممن بقوا، بين لوعة الذكرى وجفاف الغربة وأمل العودة وإن طال! يقول مريد البرغوثي عن السخرية كسلاح للأعزل: «ومن علامات قوة المقهور السخرية من الأقوى، والاستعداد الصامت للرد في وقت ما، حتى وإن طال. أثناء هذا الصبر يمارس المقهور شهوة الحياة بكل الحواس». وإن لم يمكّنه الوقت من الرد الشافي وقد رحل، فلعل الوقت قد حان لكل مقهور باق على أرضه أن يرد، وله إذاً أن يمارس حب الحياة بعد انتصارها.