13 سبتمبر 2025
تسجيللاشك أن مصادر الفكر الإسلامي التي هي القرآن والسنة لا يصح أن يطلق عليها فكر بالمعنى الاصطلاحي، لأنها وحي ثابت وأمر رباني، لكننا حينما نطلق كلمة الفكر الإسلامي فإنما نريد بها ما قدمه لنا علماء المسلمين ومفكروهم من فهم شامل وتفصيلي لهذه المصادر الربانية ومن أدلة مستمدة منهما. ولا شك أيضا أن هذا الفكر الفهم قد يشوبه الخطأ كما يشوب غيره، لكن خطأه محط اهتمام لمكانة الدين من النفس، ولقد بُذلت جهود جبّارة، وطاقات كبيرة لتصفية الفكر الإسلامي مما شابه، أمثال الجهود التي قام بها محمد عبده وجمال الدين الأفغاني، والجهود التي قدّمها الشيخ حسن البنا وأبو الأعلى المودودي رحمهم الله تعالى، ومن المعاصرين الدكتور العلامة يوسف القرضاوي، ومع كل المحاولات التي بُذلت، والجهود التي تبذل، مازال هناك دَخَن وخلل وشوائب، ولم ننته بعد من عملية التصفية والغربلة لفكرنا الإسلامي، المصدر الأول لنهضتنا. ومن ثمرات عملية التصفية أن بعض المسائل التي أثير حولها الجدل، وكانت غير مقبولة قبل (100) عام، أصبحت الآن من البديهيات والمسلمات عند المسلمين، ولسنا بحاجة إلى بذل جهد كبير لإقناع الناس بصوابها، مثل الإسلام هو الحل، ومثل السياسة جزء من الدين، ومثل المستقبل للإسلام، فهذه القضايا لم تكن تلقى قبولاً عند الناس قبل سنين. مجالات تحتاج إلى تصفية في تقديري الشخصي فإني أرى أن عملية التصحيح والتنقيح والتصفية قطعت أكثر من (90?) من المشوار لكنها لم تنته، ومازال هناك بعض الجوانب التي تحتاج إلى تصويب وإعادة صياغة، ومن ذلك: * الأهواء والانتماءات لقد تأثر فكرنا الإسلامي بالأهواء والانتماءات، والتاريخ الإسلامي خير مثال على ذلك التأثر، فغالبية التاريخ لم يُكتب بحيادية، والصفاء فيه قليل ونادر، بل كان هناك تحيّز واضح من المؤرخين، فإذا كان من يكتب التاريخ شيعياً انحاز للطرح الشيعي، وإذا كان من يكتب التاريخ سنّياً انحاز للطرف السني، وهكذا.. لذا فنحن بحاجة إلى إعادة كتابة التاريخ وفق منهجية علمية، وبحاجة إلى تصفية فكرنا الإسلامي من الأهواء والانتماءات التي طالما جنت على أمتنا، وأخّرت نهضتنا. * العادات والتقاليد تأثر فكرنا الإسلامي كذلك بالعادات والتقاليد، وبمرور الزمن امتزجت بالدين، حتى بات كثير من الناس يظن أنها جزء من الدين، وإذا تُركت قالوا تُرك الدين، ومن الأمثلة الواقعية على ذلك مسألة " قيادة المرأة للسيارة " فمن ناحية الدين والشرع، لا يوجد ما يمنع من قيادة المرأة للسيارة، لكنّها تُمنع من القيادة بحكم العادات والتقاليد وخصوصية البلد ليس أكثر، ليست المشكلة في أن المنع جاء لخصوصية البلد وعادات أهله وتقاليدهم، بل المشكلة أن المنع - بمرور الزمن- أصبح باسم الدين، وبه يفتي العلماء والوعّاظ. لذا فنحن بحاجة إلى تصفية عميقة لفكرنا الإسلامي من العادات والتقاليد، التي اختلطت به، ولا بد من أن نفصل بين العادات التي تراعي ظرفاً معيناً، أو خصوصية مجتمع ما عن أحكام الدين. * ظاهرة الذكورية كثير من القضايا التي طرحت في تاريخ الأمة تأثرت وجهة النظر فيها بسيطرة الذكور في المجتمع، وهي ظاهرة عالمية لا تنحصر في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، فحتى في الغرب هناك سيطرة للذكور، تظهر من خلال الإحصاءات التي تشير إلى سيطرة الذكور على الشركات والمنظمات وحتى الحكومات. أما بالنسبة لنا كمسلمين، فمن يتتبع بدايات الإسلام، يجد عدداً كبيراً من أسماء النساء اللاتي كان لهن دور بارز في حركة الإسلام ونشره، ولهن صفات وإنجازات عظيمة، تجاوزت صفات وإنجازات الرجال، لكن وفي الفترات المتأخرة من تاريخ أمتنا، أصبحنا نبحث عن المرأة المتميزة بالمجهر والعدسة المكبّرة، وما ذلك إلا بسبب ظاهرة الذكورية، وسيطرتهم على مرافق الحياة والمجتمع. * تعليم المرأة حرام!! ومن الأمثلة على نتائج اتساع ظاهرة الذكورية أن أصبح التعليم في بعض الفترات مقتصراً على الذكور، وتصدر الفتاوى بحرمة تعليم المرأة، ومازال بعض الناس في القرن (21) يأخذون بمثل هذه الفتاوى، مما ترتب عليه انتشار الأمية بين النساء بشكل مخيف، والإحصائية التالية تكشف لنا جانباً من هذه المشكلة الخطيرة. في عالمنا العربي (20%) نسبة الأمية في الرجال، و(38%) نسبة الأمية في النساء بحسب إحصاءات (2007). * عمل المرأة حرام ومن الأمثلة على نتائج اتساع ظاهرة الذكورية أيضاً أن أصبح العمل مقتصراً على الذكور دون الإناث، حتى وصل الأمر إلى إصدار الفتاوى التي تحرّم عمل المرأة مطلقاً، دون وضع ضوابط ومحددات، والإحصائية التالية تكشف لنا جانباً من الظلم الذي وقع على المرأة في هذه المسألة. بالنسبة لحقوق المرأة في التوظيف والعمل، فإن معظم الدول العربية إما لا توجد فيها مساواة، وإما قد توجد القوانين التي تكفل المساواة، لكنها لا تطبق. * الانبهار والتبعية والتقديس من الخلل الذي أصابنا وأصاب فكرنا خلل الانبهار والتبعية والتقديس، قد يأخذ هذا الخلل صوراً وأشكالاً متعددة، مثل الانبهار بالغرب إلى درجة الاعتقاد بنظرية المؤامرة، التي خلاصتها أن مصائب الأمة وأزماتها ومشكلاتها وحتى التخلف الذي تعاني منه سببه الأعداء، خاصة اليهود والأمريكان، وأنْ لا يَدَ لنا في ذلك. ويظهر الخلل أحياناً في صورة تبعية عمياء وتقديس عجيب للمذاهب وشيوخها، والتيارات الفكرية ورجالاتها، وهناك تبعية وتقديس للحكام، حتى وصل الخلل إلى السلف الصالح، فصارت كلماتهم مقدسة، وفتواهم يحرم مخالفتها، ويُشنّع على من انتقد رأياً اجتهادياً لأحد العلماء، وهناك فرق بين أن نحترم السلف الصالح ونتقرب إلى الله تعالى بحبهم، وبين أن نقدس أشخاصهم، لأن العالم يُحتجّ له ولا يُحتجّ به، وقوته في دليله الذي يستدل، ومنهجيته التي يعمل بها. * التأثر بالواقع كثير من العلماء والمفكرين عندما يطرحون قضايا الفكر والنهضة، يطرحونه متأثرين بالضعف العام الذي تعاني منه الأمة، ومن الواقع المتخلف الذي أصبح علامة بارزة في حياة الشعوب، فعندما نقرأ لمن يكتب عن الإسلام في عصوره الذهبية، عصور النهضة والريادة، يستخدمون كلمات العزة والشموخ والسعادة والفخر، وعندما نقرأ لمن كتب عن عصور التخلف التي مرّت بها الأمة، نجد أن لغة العزة غابت، وكلمات الفخر ماتت، وأصبح الإسلام متهماً وبحاجة لمن يُدافع عنه، وأصبح هَمّ المفكرين رد الشبهات، ومحاولة استرضاء الآخرين. ومع ذلك، ومهما بلغ الضعف وانتشر التخلف، وأصبحا واقعاً ملموساً، فلا ينبغي للضعف والتخلف أن يمسّا الفكر، أو يؤثرا سلباً عليه، لأن مهمة الفكر أن ينهض بالواقع، لا أن ينجذب إليه، ويدور في فلكه، وعليه يجب أن يبقى الفكر صافياً من ظاهرة التأثر بالواقع.