16 سبتمبر 2025

تسجيل

يا نواخذ أخذوني معاكم

10 ديسمبر 2020

في صغرنا كنا نستمع إلى أغنية دائماً ما كانت تتردد على مسامعنا وتصدح بها القنوات التلفزيونية والإذاعات الخليجية، حتى أصبحت تلك الأغنية مشهورة جداً في حينها، تقول في مطلعها "يا نواخذ أخذوني معاكم، ثم اطرحوا بي على مرسى المحبين". تمثل كلمات تلك الأغنية قمة التطفل والاتكالية، فهي تصور العاشق الهائم وهو يطلب من "النواخذ" - وهي تسمية تطلق محلياً على ربابنة السفن-، أن يأخذوه معهم في رحلتهم الطويلة والمشوبة بالعمل الجاد والتعب والكدح الشاق، ليطرحوا به في طريقهم على مرسى المحبين ليتعاطى الحب ويطارح الغرام وينهل من معين العشق الناضب، وبالرغم من أن تلك الصورة فكاهية في ظاهرها، فإنها تجسد الواقع وتلامسه بشكل أو بآخر. تتبلور تلك الصورة في كثير من المجالات التي يتطفل عليها البعض لينهلوا من معينها، ويغرفوا من فوائدها دون أن يكونوا جزءاً منها، وكأن لسان حالهم يقول "يا نواخذ أخذوني معاكم"، ومن المؤسف حقاً أن تلك الظاهرة تنشط في عالمنا العربي في مجال التخصصات الإنسانية والأدب والثقافة والفن، ظناً من المتطفلين أن "النواخذ" في تلك المجالات لن يفلحوا في كشف هوية العاشق الولهان، وفي الوقت الذي لا تخلو فيه مجالات أخرى كالتخصصات العلمية الدقيقة من المتطفلين، إلا أن ذلك التطفل محدود التأثير ويجد من يحاربه على كل حال. مؤخراً صدر قرار بإلغاء فعاليات معرض الكتاب لهذا العام، بسبب تداعيات جائحة كورونا، وقد أحبط هذا القرار الكثيرين وأثار امتعاضهم، ولكن الظروف الراهنة كانت أقوى من التمنيات والتطلعات، ولو توقفنا قليلاً لتقييم تجربة معارض الكتاب، نجد أنها تجربة ثرية تقدم فائدة للقارئ العربي وتعزز رصيد المكتبة العربية وتثري المسيرة الثقافية، إلا أن أي تجربة لا تخلو بطبيعة الحال من جانب سلبي، لابد من الوقوف عليه وعدم إغفاله، فبزيارة خاطفة لأي معرض كتاب، تصطدم بأنه أصبح يعج بدور الكتب التي لا تبيع إلا دفاتر التلوين والقرطاسية، ورفوف بعضها الآخر امتلأ عن بكرة أبيه "بالروايات الواتسابية".. وأعني بها تلك الروايات التي يغلب على لغتها لغة الواتساب والمحادثات، فالكل أصبح يتجرأ على الرواية وأصبح الكل راوياً يذيل روايته بتوقيعه وإهدائه للمعجبين، روايات تفتقر لأبسط قواعد الكتابة الروائية.. فلا حبكة درامية ولا لغة سليمة، مجرد كلام مبعثر أشبه بالسيناريو منه للرواية. ومن المؤسف حقاً أننا نجد بعض كتّاب تلك النوعية من الروايات، تُعقد على شرفهم الندوات والملتقيات وجلسات القراءة، ويحظون بإشادة وتقدير "الراسخين" في الأدب والنقد، الأمر الذي يكشف لنا جلياً أن دائرة التطفل تتسع لتشمل الكثير من أولئك الراسخين أيضاً، فكيف تنطلي على بعض النقاد والأدباء الكثير من الكتابات الهشة والسطحية مع ما يشوبها من سوء اللغة وسخافة المصطلحات، ناهيك عن السرقات الأدبية وانتحال النصوص والاقتباس دون الإشارة للمصدر الأصلي!، وهو ما ينكشف جلياً وبسهولة لمجرد قراءة سريعة لبعضها. وباعتقادي فإن تلك الروايات والنصوص لم تكن لتمر على بعض المختصين إلا أن يكونوا هم أنفسهم مجرد لاعبي خفة يد وفانتازيا استطاعوا أن يقحموا أنفسهم في المجال دون أن يلحظهم أحد، وبذلك تستمر العملية في التكرار وسط حلقة مفرغة، وعلينا نحن تحمل تجرع السطحية والهشاشة، وان يبقى المثقفون والأدباء والكتاب الحقيقيون ينوؤون بأنفسهم عن هذه الفوضى العارمة. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: أليس من المفترض أن تكون هناك معايير صارمة لحماية مجالات هامة كالمجالات الأدبية والثقافية والفنية من تطفل المتطفلين؟، وألا يترك الحبل على الغارب أمام المتنطعين للتسلق على جهود الآخرين أو استغفال أفراد المجتمع وإبراز أنفسهم على الساحة والحصول على ما لا يستحقونه، وكيف تمر تجاوزاتهم من هشاشة النصوص والسطو على حقوق أدبية لمؤلفين آخرين دون إجراء أو تدقيق في المحتوى، فالخطوط الحمراء تنشط في جوانب ولكنها تخفت تماماً في جوانب أخرى حساسة ومهمة. تعاني كثير من المهن والمجالات والتخصصات من ذلك التطفل، وأمام هذا الوضع ينبغي ألا يكون التعطش للإنتاج الأدبي والثقافي مسوغاً لقبول الهشاشة والضعف ودعم المتطفلين، تحت حجة البحث عمن يملأ الفراغ فقط، وبعيداً عن المناداة بتضييق الخناق أو تقليص الأفق أمام حرية الفكر الإبداع، فإنه من الضرورة بمكان وضع معايير صارمة ورقابة تحد من العشوائية والادعاء، والأمر منسحب على مجالات ومهن أخرى وليس محصوراً في الجانب الثقافي والإنتاج الأدبي فقط، فالعمل الصحافي التقليدي هو الآخر أصبح ينظر له من قبل البعض، وبكل أسف كشيء من الماضي القاحل، لا يتماشى مع روح التطور وعصر التكنولوجيا!. وللحديث عن هذا الجانب المتعلق بالصحافة التقليدية وهو حديث ذو شجون، تبرز معه آفة التطفل بشكل جلي، فالفكرة المتبلورة عن المجال الصحافي التقليدي هي فكرة مخلة جداً، فالاعتقاد بأن المنصات الحديثة والتقنيات الإلكترونية أصبحت بديلاً للصحافة الورقية هو أمر صحيح ولا غبار عليه، إلا أن ما يجهله كثيرون هو أن استخدام المنصات الحديثة والاستغناء عن الوسائل التقليدية، لا يعني بأي حال من الأحوال أنه بات بالإمكان الاستغناء عن العمل الصحافي في جوهره، أو الاستعاضة عنه بالعشوائية والتخلي عن المعايير الأخلاقية التي تنظم الصحافة، وسوء الفهم هذا أمر مستشر في عالمنا العربي بشكل كبير للأسف. في الواقع فإن التطورات التكنولوجية الحديثة أسهمت في تسهيل تطفل البعض على العمل الصحافي، دون أن يلزموا أنفسهم أو يلزمهم أحد عناء التقيد بأي معايير، فما أن يذهب الصحافي "التقليدي" لتغطية إحدى الفعاليات أو الأحداث المهمة إلا ويجد "صحافيي السوشال ميديا" يحثون الخطى أمامه يصولون ويجولون وهم ينقلون الحدث، وقد يستأثرون باهتمام ومكانة تتجاوز الدور الذي يقومون به، وهذا ما جعل البعض يجد ضالته فيهم، وأصبح لا يستغني عنهم في تغطية الأحداث، لأنهم يحققون له ما يصبو إليه من شهرة وانتشار كونهم يحظون بمتابعة الكثيرين، دون الأخذ بالاعتبار الجمهور المستهدف وطبيعة الفئة التي يستحوذ على اهتمامها ذلك "الصحافي"، الذي نحل لنفسه مسمى "إعلامي" للتخفف من الالتزام الذي ينظم مهنة الصحافة!، ليذهب بعد أن ينجز عمله الصحافي ويحصل على أجره الكبير نظير جهوده التي بذلها، ليقدم لمتابعيه المتعطشين والمستوعبين لكل شيء إعلانات تجارية لمطاهم ومقاه وغيرها من مرافق الترفيه والمتعة. لقد أدى هذا الوضع إلى عزوف الكثيرين عن إتباع السبل المنظمة لولوج أي مجال، وطالما بقي الباب مفتوحاً على مصراعيه، سيجد البعض أن سبل التطفل على المجال أسهل من اتباع المعايير والقواعد السليمة التي تنظم المهن والتخصصات، ومع غياب إجراءات صارمة لتنظيم وتطبيق تلك القواعد، فإننا سنواجه لا محالة فوضى تكتسح مجالات مهمة وتضعف مخرجاتها. وأمام هذه المعطيات تبرز أهمية إعادة النظر في التعامل مع الواقع بجدية أكبر، ووضع معايير أكثر تنظيماً لمختلف المجالات، وعدم التهاون في إجازة النصوص والروايات، وعدم السماح بطباعتها وتوزيعها دون التدقيق في محتواها، كما ينبغي أن يكون هناك تنظيم لمختلف المجالات ووضع معايير وتعريف لها وتصنيف العاملين فيها وإجازتهم، حتى لا يأتي علينا يوم نذهب فيه إلى معرض الكتاب لتلوين وجوه أطفالنا وشراء القهوة والتصوير مع المشاهير، وشراء رواية أو كتاب لا تساوي قيمته الورق المطبوع عليه، ولا يقدم محتواه أي فائدة تذكر، بل إنه قد يسهم في تسطيح الفكر والانحدار بذائقة القارئ العربي، ليدندن بينه وبين نفسه ويردد هو الآخر "يا نواخذ أخذوني معاكم ... هيلا هيلا".