10 سبتمبر 2025

تسجيل

هل أصبحت الأمة العربية.. دولاً عربية؟

10 نوفمبر 2020

في الثاني من أكتوبر عام 1869 ولد شخص ضحك العالم على مظهره، وسخر المستعمر من قوته، وقتله رفاقه وأبناء جلدته، لأنه نادى بما كان يؤمن به دائماً، إنه المهاتما غاندي الذي ناضل من أجل الأمة الهندية، والثقافة الهندية، والأرض الهندية، وغادر وهو يقول عبارته الأجمل: أريد أن تهب ثقافات كل الأراضي بمحاذاة منزلي، وبكل حرية، لكني أرفض أن أتقلب بهبوب أي واحدة منها. اليوم نحن في وطن عربي كبير، لا غاندي فيه، ولا رموز تدافع عن هويته، ولا مفهوم الأمة بكل جوانبها، بل إن التاريخ يوضح لنا أن كثيراً ممن لعبوا على وتر الأمة كانوا يستغلونها لأغراضهم الشخصية، كجمال عبدالناصر، فباتت أمتنا العربية اليوم بين صراع بقاء الدولة.. وضياع الأمة. لا شك أن مصطلح الأمة أكبر وأعم من مصطلح الدولة، فهي لها دلالتها التي يرسمها الواقع من حيث المشتركات بين شعوبها لا بناء على المساحة الجغرافية أو الحدود السياسية لها، وهي أمة ترتبط بما يكونها من دين ولغة وأخلاق وأعراف تستمد منها قوتها التي تفرض من خلالها قوانينها الخاصة التي تعتقد أنها تحكمها وإن لم تكن تأخذ الشكل الرسمي في المعنى والتطبيق، كما أنها ترسم من خلالها توجهاتها الفكرية ومواقفها التي تبدأ في الحاضر وترسخ في المستقبل بناء على حاجاتها ككتلة كبيرة وليست قطعاً أو أفراداً أو مجموعات. لكن المشكلة الدائمة بين من يميلون للدولة أكثر من الأمة يجعلهم في صراع مع أمتهم، بكل قضاياها، فيفككونها لأنها أساس الترابط، فالأمة التي تختلف على قضاياها الجوهرية تنتهي، وما المشتركات إلا مكملات لقضاياها الجوهرية الكبرى، كأن يتفق العرب على فلسطين، ومحاربة الصهاينة، فإن فككت الآراء واختلفت على أكبر قضية جوهرية تجمع الأمة، فمن السهل حينها تفكيك الأمة وتحويلها لدول مختلفة ومتخالفة. فكرة الأمة هي شعور إنساني، يجمع الكل في كل أكبر، لهذا فإن المنظرين لفكرة الدولة يروجون دائماً لفكرة الهوية الوطنية، أو للأفكار الضيقة التي تعزز المواجهة مع فكرة الأمة. عالم الأنثروبولوجيا الشهير أرجون أبادوري قال ذات يوم: إن مفهوم الدولة دخل في أزمة، لأن الهوية الثقافية نفسها هي التي دمرت بسبب التغير الواقع، وطال الشك فكرة الجمع الوطنية القائمة على وحدة اللغة والتقاليد والدين والثقافة. إن الدولة التي تنفصل عن الأمة وتظن أنها ستحافظ على هويتها مخطئة، لأن وعي الناس فيها يتغير مع تغيرها، وحاجاتهم تبدأ بالاختلاف والتطور من خلال المقارنة مع الغير أو البحث عن الجديد، فتدخل الدولة صراع الحفاظ على الهوية أو القبول بتشكيل هوية جديدة، والوطن العربي بتعدد أعراق شعوبه واتساعه الجغرافي قابل لأن تتغير هويته بشكل كامل سواء كان ذلك لكونه مجتمعاً استهلاكياً مستورداً لكل شيء بما فيها الثقافة والهوية، أو الخوف من السلطة السياسية وإتباع قراراتها فيما تقول حتى لو طلبت منهم الحديث بالعبرية. إن فكرة تفكيك الأمة العربية التي كانت تسبب ضغطاً للقادة العرب، كانت في الحقيقة تحميهم من اتخاذ كثير من القرارات التي يمكن أن يتعرضوا لها تحت الضغط، لكن قصر النظر السياسي لدى كثير من الأنظمة العربية جعلها تعتقد أن الانفراد بالرأي السياسي أو القرار السياسي في القضايا الكبرى يجعل لها استقلالية أكبر أو مكانة أكبر، حتى وصلنا مرحلة أستفرد فيها بنا خصومنا كل على حدة، وأصبحت الدول العربية اليوم لا تحتاج لضغط حتى ترضخ، يكفي الأمر أن يتذكر القائمون عليها مصير غيرهم فيسلمون بما يريد الغرب، ولنا في الركض خلف التطبيع الحالي مثال. لدينا مشكلة قيادة حقيقية في الوطن العربي، وهذه المشكلة تجعلنا نواجه المجهول، فالواقع يظهر أنه لا أمل لنا في الحكومات ولا الساسة في قيادتنا نحو طريق يمكن الاعتماد فيه عليهم، أو طريق يمكن القول إنه الطريق الصحيح الذي يقودنا للنهاية السليمة، فعدم القدرة على موازنة الأمور واختلاف الرؤى والتوجهات السياسية بداية من إدارة الحكم الداخلي ومروراً بالفردية المطلقة في حكم كل دولة تعتقد أنها هي الوحيدة فقط التي على صواب وليس نهاية بإعادة تعريف الأخ والصديق والعدو تجعلنا في منطقة لا مستقبل لها إلا من خلال من يديرون خيوط اللعبة من خارج منطقتنا. هذه المشكلة تمتد للاقتصاد، فبعد أن كانت دولنا فقيرة معدمة مستعمرة، تحولت بفضل الاستقلال والبترول والمعادن لدول غنية فجأة، لكنها لم تحسن لليوم الصرف من مواردها، ولا إدارة أصولها، وباتت عرضة لأي ضغوطات اقتصادية من الخارج، بل بلغ الأمر أن دولنا تتعرض أحياناً لضغوط اقتصادية من بعضها البعض من أجل اتخاذ موقف لصالح دول الضغط، وأحياناً ضد دول عربية. ورغم كل هذه السنوات لا نزال شعوباً مستهلكة، لا منتجة، وهذا يجعلنا تحت ضغط قادة الاقتصاد، وعندما نقول هذه الكلمة فإننا بالتأكيد لا نعني الدول التي تقود اقتصاد العالم، بل الشركات التي أصبحت تقود مصير العالم والأفراد الذين يقودون توجهاته السياسية، ولعل أكبر مثال ينطبق على ذلك هو ما قاله الفيلسوف الأمريكي ورائد العملانية ريتشارد رورتي: "لدينا طبقة عولمية من أثرى الأثرياء، تصنع القرارات الاقتصادية الكبرى، وهي تصنعها باستقلال تام عن تشريعات أية دولة، وعن إرادة أي ناخبين". ولعل خير مثال يتجسد في قدرة الشركات العابرة للقارات أن تسيطر على مصير العالم تلك الفضائح التي تكشف عن قيام شركات أدوية بشراء براءات اختراع لعلاج الكثير من الأمراض الكبيرة وطمسها، لأن العلاج قد يقضي على حاجة الناس للدواء، أو ضغط الدول الكبرى على منع دول معينة من القيام بتصنيع منتجات معينة تجعلها حكراً عليها، رغم أن هذه الدول الممنوعة من التصنيع هي التي تمتلك المواد الأولية لها، ويمكنها بأرخص الأثمان أن تبدأ هذه الصناعة ولكنها تمنع وتتحول لمستهلك بأعلى الأسعار. إننا أمام تحد حقيقي كشعوب عربية في بقائنا كأمة، فلا اللغة ولا الدين قادران في المستقبل على حماية مقدراتنا ولا ترابطنا، ويكفي توجيه وسائل الإعلام لتضليل العقول وتغييب الوعي وتحويل الأمة العربية إلى دول.. وربما ليست عربية. [email protected]