14 سبتمبر 2025
تسجيلمما يعجز العقل عن تفسيره أحيانا هو ما يجري في بلاد العرب، ففي ظل القرن الماضي تشكلت في الجار الأقرب لنا وهي أوروبا كتل دولية وتفككت ثم عادت واتحدت، حتى إذا ما انهارت الكتلة الاشتراكية وتفكك الاتحاد السوفييتي عادت دول أوروبا الشرقية إلى أحضان أمهاتها وشقيقاتها الغربيات، فقد عادت ألمانيا وعاصمتها بون إلى ألمانيا الأم المتحدة وعاصمتها برلين، وما إن تحطم جدار برلين عام 1991 حتى أعيد تموضع الجغرافيا الأوروبية من جديد . فتشيكوسلوفاكيا عادت دولتين، ورومانيا أخذت ما يقارب عشر أراضي هنغاريا، والبلقان عموما تفاصلت قبل أن تدخل كرواتيا والصرب وألبانيا في حرب انفصال دفع المسلمين هناك ثمنا باهظا من أرواحهم في كوسوفو وهم وحدهم الذين لا يزالون يعانون من التمييز الجغرافي والديني جراء مطالبتهم بالانفصال كوحدة واحدة، تعرضوا خلالها إلى أقذر عمليات تطهير ديني في تاريخ القرن العشرين على أيدي الصرب، ما حدا بالرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون إلى الطلب من حلف الناتو مشاركته التدخل لوقف المجازر ووافق الكونغرس حينها، ووضعت الحرب أوزارها عن عشرات الآلاف من قتلى المسلمين، ومع هذا تم ضم غالبية دول أوروبا الشرقية إلى الاتحاد الأوروبي، وأصبحوا كتلة سياسية موحدة السياسات في الأغلب . في المقابل عندنا نحن "الجيران العرب" تحولنا من وطن واحد إلى أوطان، ومن شعب واحد إلى شعوب، ومن نظام قومي عريق، إلى أنظمة وأعراق وشيع، وقبلنا بما فرضته علينا الدول الاستعمارية التي ورثتنا وورثت بلادنا عن دولة الخلافة العثمانية أو من لم تكن لها سيطرة عليها، لا بل تجاوزنا نظرية سايكس ـ بيكو التي تم رسمها على الورق، فقمنا بإنتاج نظريات خاصة بنا تدعم فرقتنا وشتاتنا، وتصنع مقومات ضعفنا، واستبدلنا القلم والورقة التي استخدمها سايكس الإنجليزي وبيكو الفرنسي بفأس حفرت على الأرض حدود سياسية افتراضية تحولت إلى جدران تختبئ خلفها غايات وأهداف ومؤامرات لرهط سياسي قيادي لا يمت إلى أخلاق العروبة والإسلام بشيء، ليغذي نزعة الاستعباد والتبعية الرخيصة لمراكز قوى عالمية وإقليمية، سمحت للعديد من الأشخاص المغمورين أن يتزعموا دولنا العربية ويجروها نحو الهاوية . بعد هذا البوح والنوح، يكاد المرء أن يصاب بالجنون جراء ما يحدث لهذه الأمة على يد بعض القادة الذين يستسهلون دماء شعوبهم الزكية، وينكلون بالعباد، ويوسعون مساحات الفوضى ويضيقون العيش على الشعوب، ويزرعون الأرض بمنصات المشانق، ويحرقون الأرض التي تحمل من يرى أن شمس المستقبل ستسطع على جيل يطلب الحرية والوحدة مع الآخر، ويطالب بحقوق سياسية واقتصادية واجتماعية متساوية، تماما كفطرة الله لكافة البشر، وكم رأينا من قائد عربي أشبع التاريخ خطبا قومية ووطنية، وعند أول اعتراض على أخطائه يشبع الشعب قتلا وسجنا وتشريدا، حتى وصل المجانين إلى سدات الحكم على شكل مجالس ثورية . اليوم حالنا لا يرثى له فحسب، بل يدعو إلى الخجل والخزي، حينما نستنجد بعدو الأمس لينقذنا من بطش حكامنا وأنظمتنا اليوم، والأدهى أننا نتحدث كثيرا عن تجاذبات السياسة الدولية ومواقف الدول تجاه ما يجري في بلادنا، ونلوم هذا ونتخاصم مع ذاك ونهاجم " لفظيا " روسيا والصين وإيران والكتلة الثورية في العالم الذين اتخذوا موقفا واضحا يساند النظام السوري مثلا وهم يعرفون أنه يقتل شعبه، ثم نقف نحن أشبه ما نكون بالتماثيل السياسية، لا نحرك ساكنا باتجاه التغيير الفعلي على أرض الواقع أكان في سوريا أو مصر أو بلد عربي، مع أن تلك الدول غير معنية بالتعداد السكاني لنا، فنحن لا نمت لهم بصلة دم ولا عرق ولا دين، وكل ما يجمعنا هو الغطاء الإنساني الذي يتفاوت حسب مقياس المصالح السياسية بين الدول . طالما كان العرب مختلفين، والخلاف الأكبر بين القيادات والأنظمة العربية، ولكن في كثير من المحطات والمواقف كان هناك يوم ما يجتمع العرب على موقف ما رغم شذوذ قائد أو أكثر عن الإجماع، ولكن اليوم لا نكاد نرى دولتين أو قائدين عربيين يجتمعان على رأي أو موقف واحد واضح، ورغم الاجتماعات العارضة والابتسامات البروتوكولية أمام الكاميرات، فقد تباينت وجهات النظر، واختلفت الآليات حسب رؤية كل فريق منهم، فهل يعقل أن يختلف اثنان على إنهاء مجازر بشرية ولو بالقوة . المشكلة إذا ليست في أمريكا ولا في الاتحاد الأوروبي، ولا في روسيا والصين وإيران، بل المشكلة فينا نحن، نحن الذين نقتل بعضنا ونزرع بأيدينا أسباب فرقتنا، ثم نريد من أعداء الأمس الأخذ بثأرنا نيابة عنا، وحتى ذلك الوقت فلننتظر الكونغرس الأمريكي ماذا سيقرر.