17 سبتمبر 2025
تسجيليرى كثيرون من علماء السياسة أن انهزام فرنسا في أوروبا، واصطدام مشروعها الهيمني ببنود اتفاقيات 1815 و1870 دفعها إلى البحث في آفاق بعيدة، ما وراء البحار، عن سبيل لتحقيق النصر السياسي، وتنمية مقدراتها من أجل التقدم الاقتصادي وإشاعة الفكر الإنساني لمبادئ ثورتها، وقد لقي هذا البحث مباركة التجار والعسكر والجغرافيين والمبشرين ورجال الأدب والعلماء؛ كل هذه المجموعات أسهمت في خلق أيديولوجية تبرر سياسة الغزو. بالطبع، بعد أن رسمت لها حداً جغرافياً ركز بالأساس على القارة الإفريقية فريسة المطامع الاستعمارية (انظر مثلا: د. عبدالحميد الضهاجي - السياسة الدولية ع 152 - أبريل 2003). والدور الفرنسي في إفريقيا لم ينته باستقلال عن الاستعمار الفرنسي فلقد أصبح هناك 25 دولة إفريقية يمثلون نصف القارة يتكلمون الفرنسية من بينهم دول المغرب العربي الثلاث الذين يستعملون اللغة العربية كلغة رسمية بجانب نطقهم بالفرنسية وهم (تونس، الجزائر، المغرب). والواقع أن فرنسا تحتفظ بعلاقات طيبة مع دول القارة التي كانت مستعمرات فرنسية والتي عُرفت باسم "الفرانكفون" في شكل علاقات ثنائية، ويعدّ الجنرال "ديجول" أول من وضع ركائز الدور الفرنسي بالمنطقة في فترة ما قبل الاستقلال وذلك في إطار ما عُرف بالجماعة الفرنسية، ثم في فترة ما بعد الاستقلال في إطار التنظيمات الاقتصادية الإقليمية "الأوكام" وهي المنظمة التي ولدت في نواكشوط في 12/2/1965 بعضوية 13 عضواً من الدول الإفريقية الناطقة بالفرنسية وهم: الكاميرون، إفريقيا الوسطى، تشاد، داهومي، توجو، الجابون، ساحل العاج، مدغشقر، موريتانيا، النيجر، فولتا العليا، السنغال، رواندا، والكنغو برازافيل ثم زائير في نفس العام(جوزيف رامز أمين، السياسة الدولية – ع 87 - يناير 1987). وتشكل القارة السمراء إحدى أهم دوائر السياسة الخارجية الفرنسية، وهو الأمر الذي عبّر عنه الرئيس الراحل فرانسوا ميتران في القمة التي عُقدت في بيارتيز (نوفمبر 1994) حيث أكد للحاضرين أنه دون إفريقيا لن يكون لفرنسا تاريخ في القرن الحادي والعشرين، فالقارة السمراء كانت مجد فرنسا ومنطقة نفوذها التاريخية، لذا من الصعب تخيل قيام رئيس أو حكومة فرنسية أيما كانت توجهاتها بالتخلي عن فرنسا أو أن تولي ظهرها للأفارقة. ويبدو أن هذا الأمر ليس قاصراً على "ميتران" فقط بل سبقه "ديجول" الذي أرسى تقليداً أصبح بموجبه يُشرف شخصياً – على ملف الشؤون الإفريقية، ولا يزال هذا التقليد معمولاً به حتى الآن، ويصنف هذا الملف بأنه "بالغ السرية"، كما تم -في منتصف التسعينيات- ربط وزارة التعاون الدولي مع قارة إفريقيا بوزارة الخارجية لضمان فاعلية التواصل مع قضايا القارة. ولعلّ الاهتمام الفرنسي بإفريقيا يظهر من عدة مؤشرات، فالجالية الفرنسية هي أكبر جالية أجنبية في إفريقيا. ووفق إحصاءات عام 1996 بلغت هذه الجالية 114 ألف فرنسي، وتحصل إفريقيا على 49% من إجمالي المساعدات الفرنسية الخارجية (تتراوح ما بين 3– 5 مليارات)، كما يلاحظ أن صادرات فرنسا السنوية لإفريقيا بلغت 13.5 مليار دولار متخطية قيمة الصادرات الأمريكية التي تقدر بـ 6 مليارات دولار فقط. وفي المقابل فإن فرنسا تستورد ما قيمته 11 مليار دولار من إفريقيا (معظمها مواد خام) أي أن الميزان التجاري لصالح فرنسا (2.5 مليار دولار). ومن هنا فإن لفرنسا مصالح اقتصادية كبرى في إفريقيا تستلزم تأمينها والدفاع عنها، ولكن ذلك يتم عبر عدة وسائل (استراتيجيات)، ولا شك أن هذه الوسائل تبدلت أو تغيرت بعد الحرب الباردة فقبل الحرب الباردة كانت سياسة فرنسا تقوم على فكرة مفادها أن نظام الحكم في دولة -ما- هو الأقدر على قمع معارضيه إذا حصل على الدعم العسكري والمادي اللازم وفي هذا السياق يمكن تفسير قيام الجنرال "ديجول" بإقامة عدة قواعد فرنسية في بعض الدول الإفريقية (السنغال – كوت ديفوار – الجابون – تشاد – جيبوتي – إفريقيا الوسطى)، كما يمكن فهم التدخل العسكري -المتكرر- في بعض الدول الإفريقية (السنغال 64)، (إفريقيا الوسطى 67، 1970 ثم 97، 1990)، (توجو 86)، (جزر القمر 1989). لكن فاعلية هذه السياسة تراجعت كثيراً عام 1991 بعد أحداث الجزائر إذ إن دعم فرنسا للنظام الجزائري لمواجهة جبهة الإنقاذ الإسلامية وفشله في السيطرة على مقاليد الأمور أدى إلى تحول البلاد إلى ساحة من المواجهات الدامية راح ضحيتها أكثر من مائة ألف شخص، ومن ثم ازداد السخط الجزائري -خاصة- والإفريقي عامة تجاه فرنسا. وتأكد فشل هذه السياسة مرة أخرى بعد ست سنوات من أزمة الكونجو الديمقراطية، حيث فشل الدعم الفرنسي في الإبقاء على موبوتو سيسي سيكو، الذي أطاح به الرئيس الراحل كابيلا، وهنا ثار الرأي العام الإفريقي ضد فرنسا لأنها تساند الأنظمة الديكتاتورية على حساب الشعوب الإفريقية. ومنذ ذلك الحين كان لابد من البحث عن وسائل جديدة تهدف إلى تحقيق الاستقرار الذي هو الركيزة الأساسية لتحقيق المصالح الفرنسية. وهنا صار الحديث عن ضرورة إرساء الديمقراطية في الدول الإفريقية عن طريق التقريب بين الأنظمة من ناحية وجماعة المعارضة من ناحية ثانية، فضلاً عن تدعيم أسس الحوار السياسي وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الإفريقية. كما عملت فرنسا على التركيز على الجانب الكيفي -في عملية التواجد العسكري بدلاً من الجانب الكمّي- فالسياسة الفرنسية الجديدة في إفريقيا لا تعني الانسحاب التدريجي من القارة وترك المجال مفتوحاً أمام الولايات المتحدة، وإنما تسعى إلى الاعتماد على الجانب الكيفي مع توسيع عملية الانتشار والتأثير بحيث تتجاوز مناطق نفوذها التقليدية، وهو ما تسعى لتحقيقه من خلال القمة الإفريقية - الفرنسية التي تضم دولاً تابعة لرابطة الأنجلوفون، وبعض الدول التابعة لواشنطن أيضاً. ومن هنا يمكن فهم قيام فرنسا بتخفيض حجم قواتها المسلحة في إفريقيا الوسطى، واستبدال المعدات العسكرية القديمة بأخرى حديثة، تلائم عمليات التدخل السريع لحفظ السلام، كما قامت فرنسا -مؤخراً- بتخزين بعض الأسلحة الحديثة في قاعدة تيبيس السنغالية على بعد 70 كم من العاصمة (داكار) وذلك لإمكانية استخدامها في فض النزاعات العرقية والقبلية في المنطقة. وفي الحقيقة فإن شبكة الدفاع الفرنسية الحديثة تقوم على أساس فكرة تقسيم القواعد العسكرية الفرنسية إلى قسمين، الأول: يعمل من داخل الأراضي الإفريقية، والثاني: يعمل من داخل الحدود الفرنسية، وبالتحديد في الجنوب الغربي من البلاد. وبالنسبة للجزئية الأولى نلاحظ أن أهم قاعدة إفريقية لفرنسا على الإطلاق هي تلك القاعدة الموجودة في جيبوتي والتي يعمل بها 3500 جندي فرنسي، ووفقاً للتصريحات الفرنسية فإن هذه القاعدة تستطيع استقبال نحو 400 قطعة بحرية، وهي قاعدة هامة في شرق إفريقيا تستخدم كهمزة وصل بين إفريقيا جنوب الصحراء والشرق الأوسط. كما توجد لفرنسا قواعد أخرى في الجابون - إفريقيا الوسطى- كوت ديفوار – السنغال – تشاد، وتعدّ هذه القواعد في مناطق إستراتيجية؛ لأنها تغطي مناطق شرق ووسط وغرب منطقة إفريقيا وجنوب الصحراء. ويلاحظ أن فرنسا خلال الفترة القليلة الماضية - ظلت تسعى لتوطيد علاقاتها مع ثلاث دول باعتبارها دولاً مفصلية في القارة وهي: مصر في الشرق - نيجيريا في الغرب – جنوب إفريقيا في الجنوب، فضلاً عن سعيها الأخير لتحسين العلاقات مع ليبيا (بعد بروز دورها بشكل كبير في القارة خلال الفترة الماضية) والجزائر. ويذكر بدر حسن شافعي في مقاله بمجلة السياسة الدولية – ع 144 – أبريل 2001 أن لفرنسا أهدافاً ترجوها من قيام علاقات مع الدول الإفريقية أهم هذه الأهداف: 1- الهيمنة على إفريقيا، حتى وإن بدا من التصريحات الرسمية غير ذلك، وهو ما أكده مستشار الرئيس السنغالي السابق "ديالو" حيث أكد أن لفرنسا قوات عسكرية تفوق قوتها وقدراتها القتالية كفاءة الجيوش الإفريقية الوطنية وأنها تمثل تهديداً لأمن واستقرار المنطقة. 2- مواجهة النفوذ الأمريكي المتزايد في القارة خاصة بعد الحرب الباردة، وتراجع مكانة بريطانيا، وهذا ما نلاحظه من تصريحات المسؤولين في البلدين (واشنطن – باريس) ففي أثناء زيارة وليام ديلي وزير التجارة الأمريكي للقارة (ديسمبر 1998) أي بعد انعقاد القمة الإفريقية - الفرنسية العشرين - بأيام قليلة أكد أن هناك دولاً عديدة أصبحت تخرج من دائرة نفوذ الأوروبيين -فرنسا تحديداً- المنافسين للولايات المتحدة، وأن بلاده مصممة على الالتزام بشكل قاطع وعلى مدى طويل بعملية الاستثمارات التجارية في إفريقيا وفي المقابل نجد أن الرئيس شيراك ينتقد في القمة العشرين السياسة الأمريكية تجاه إفريقيا، والتي يعتبرها تقوم على مبدأ المصلحة فقط، وليس مبدأ التكافؤ، كما انتقد شعار كلينتون الذي رفعه وهو "شراكة لا تبعية مع إفريقيا" ويرى في المقابل أهمية تقديم المساعدات بجانب الاستثمارات. وظهر هذا التنافس في عدة مجالات لعل من أهمها على سبيل المثال المناورات العسكرية التي أجرتها واشنطن مع كل من السنغال وكوت ديفوار عام 1998 (دولتان فرانكوفيتان). 3- الاحتفاظ بمصالحها الاقتصادية مع إفريقيا (حجم الصادرات الفرنسية بلغ 13.5 مليار دولار سنوياً) فضلاً عن المشاريع الاقتصادية الهائلة في الدول الإفريقية (شراء شركات المياه والكهرباء والتليفونات في السنغال - استثمارات النفط في الكونجو برازافيل والتي تقوم بها شركة O.L.F. Lekistan والتي يتراوح حجم استثماراتها ما بين 40 - 60 مليار دولار خلال العقدين القادمين.