12 سبتمبر 2025
تسجيلرجال في دولة قطر يشهد التاريخ لهم بالأمانة والتواضع وتحمل المسؤولية أحمد بن سيف كام مثالاُ للإنسان المتسامح مع نفسه ومع من حوله الشيخ أحمد يظل علامة فارقة في حُبّه لوطنه وقدرته على تحمّل المسؤولية عندما يقدّم الكاتبُ شهادته في مسؤول أو شخصية مهمّة في بلده، بعد رحيله، فإن هذه الشهادة تكون صافيةً لوجه الله، لا يهدف الكاتبُ منها، إلا أن يقدِّم حقيقة أو حقائقَ عن هذا المسؤول أو تلك الشخصية. ولقد فُجعت قطر، والوسط الدبلوماسي على الأخص، برحيل الشيخ أحمد بن سيف آل ثاني، أول وزير دولة للشؤون الخارجية في دولة قطر عام 1978، حيث انتقل إلى جوار ربّه يوم 29 /6 /2019، وعمّت غمامةُ حزن لا حدود لها، كُلَّ من تعاملوا أو سمعوا عن سيرته الراقية، وكان قبل ذلك التعيين قد تسلَّم مهامَ سفير دولة قطر في بريطانيا، عام 1972، وهو موقع مُهم، خصوصاً في مرحلة بناء هياكل الدولة، ومدّ أذرعِها الدبلوماسية إلى دول العالم، تتعامل معها بتحضّر ومسؤولية. الفقيد يتحدث من على منبر الأمم المتحدة، والهيئات الدولية، في بقاع شتى من العالم، وفي أروقة مجلس التعاون، الذي شهد إنشائه عام 1981. وشهدتُ، أنا، مرحلةَ نشاطه في أواخر السبعينيات والثمانينيات، حيث الحرب العراقية الإيرانية، إنشاء مجلس التعاون، الحرب الباردة، وغيرها من العواصف التي هبّت على العالم. وكنتُ أعمل بعضَ المقابلات مع الوزير الإنسان أحمد بن سيف، وكان يُناديني ( أخي أحمد)، بروح من التواضع النبيل، والتقدير لمهنة الإعلامي، مع احتفاظه بمكنونات السياسة وحتمياتها. تشرَّفت بالسفر معه على ذات الطائرة، في أكثر من مناسبة، فلا يضع حدوداً بينه وبين الإعلاميين، كما أن الابتسامة لا تفارق وجهه، وصوته بالكاد تسمعه، وهذا ينمُّ عن شخصية حنونة في المقام الأول، وإيجابية في المقام الثاني، وذات مسؤولية في المقام الثالث، وإنني لأغمُط أسرتَه على وجوده بينهم، ونيلها هذا التعامل الراقي والهدوء الجميل، والتأني في الأحكام التي تصدر عنه. وفي تصريحاته السياسية، القليلة، كان يحرص على مواكبة مسيرة السياسة القطرية، ولا يجرح السياسات المناوئة، مهما حاول بعضُ الصحافيين (جَرّهُ) إلى تجاوز الخطوط الحمراء. أحمد بن سيف، كان مثالًا للإنسان المُتسامح مع نفسه ومع من حوله، وهذا لا يتوفر لكثيرين، فهو لا يترفع على غيره، حتى لو كان مذيعاً يافعاً أو صحافياً متدرباً، بل يقابل الجميع بابتسامته العاقلة، وحنوّهِ الواضح، لدرجة أنه يتجاوز ثقافة المسافات Proximity، ليتحدث بدرجة الهَمس مع محدثيه. ثلاثةٌ وسبعون عاماً قضاها الشيخ أحمد بن سيف مع محبّة الآخر واحترامه، ولم " يغرّهُ" المنصبُ الرفيع، كما أنه يهتم لشؤون المواطنين القطريين، سواء عندما كان سفيرًا في بريطانيا، أم عندما شغل منصب وزير الدولة للشؤون الخارجية، وأذكر إنني كتبت مقالاً عن حادثة تعرَّضت لها عائلتان قطريتان، على حدود دولتين في أوروبا، وقد خاطبتا سفارة قطر في إحدى الدولتين كي يُسمح لهما بدخول بلد في أوروبا الشرقية. ولم يحدث ذلك، نظرًا لتأفّف، أحد الدبلوماسيين. وأخبرني أحد موظفي الخارجية آنذاك ( 1979) على ما أعتقد، أن وزير الدولة قد اهتم بالموضوع، وأعطيتهم بعض المعلومات حول الموضوع. وهذه اللفتة لا يُمكن أن تصدر عن وزير يحملُ عبءَ المواطنين على عاتقه، إلا أن يكون استثنائياً. واصلَ الشيخ أحمد بن سيف تحمّل مسؤوليات بلده ومجتمعه بنيلهِ ثقة الدولة بتعيينه وزيراً للعدل من 1992-1995، وتم تكليفهُ بمهامَ وزير الصحة. كما احتفظ بمنصبه كوزير دولة حتى وفاته، رحمه الله. هنالك رجالٌ في دولة قطر يشهد التاريخُ لهم بالأمانة والتواضع وتحمّل المسؤولية، وما أكثرهم، إلا أن الشيخ أحمد بن سيف، يظل علامة فارقة في حُبّه لوطنه، وقدرته على تحمّل المسؤولية، إبّان المُنعرجات الخَطرة في عالم السياسة. إن ما عبّر عنه المواطنون القطريون في الصحف عن مآثر الفقيد، ورسائل النعي، ووسائل التواصل الاجتماعي، يحتّم أن تقوم جهةٌ ( ما) بتوثيق حياة الرجل، في كتاب، يكون لمسة َوفاءٍ لهذا الدبلوماسي الإنسان، الذي عاش يعملُ بهدوء، ودون ضجيج، في وقتٍ كنا نسمع الكثير من الآخرين كلاماً ( لا يُسمن ولا يُغنى من جوع). كما يُمكن أن تقوم وزارة الخارجية الموقَّرة، عبر المعهد الدبلوماسي، بعمل مسابقة للبحوث السياسية تحمل اسم الفقيد ( جائزة أحمد بن سيف للبحوث السياسية)! أحمد بن سيف، رجلُ مرحلةٍ مُهمّةٍ من تاريخ قطر، ولقد أدّى واجبهُ بكُلِّ اقتدار ومهنية، وتركَ أثرًا طيبًا في الدوائر الدبلوماسية، وفي السياسة الخارجية لدولة قطر. رحمَ اللهُ الفقيدَ وأسكنهُ فسيحَ جنّاته.