13 سبتمبر 2025
تسجيلأتوقفُ من حين لآخر عند مبادرات إيجابية وجهود تسعى لسدّ ثغرة أو توفير خدمة تحتاجها مجتمعاتنا أو تسعى في نهوضها. وقد اعتدتُ في هذه المساحة على التنويه بذلك من باب الإشادة بمثل هذه الأعمال والتأثير الذي تتركه، وتشجيعا للآخرين من أجل إطلاق مبادرات ومشاريع مماثلة لخدمة الناس وخاصة فئات الأطفال والناشئة والشباب. من هذه المبادرات التي انشرح لها الصدر وفرح بها القلب "أكاديمية بي بي سي / معهد الصحافة" التي تم تدشينها مؤخرا، ولعلّ أهمية الأكاديمية أنها بمثابة معهد إعلام مهني راق يوفّر التدريب وتطوير القدرات في هذا المجال بصورة مجانية، بطريقة التعليم عن بعد، ممّا يوفر الفرصة للجميع للإفادة من الخبرات العريقة المتراكمة لمدرسة "البي بي سي" النظرية والعملية، وطاقمها المحترف، وفي الأوقات التي تناسبهم، وبعدد من اللغات منها اللغة العربية، فضلا عن لغات يندرج شعوبها ضمن الدول النامية، كالدول الأفريقية ومن لغاتها الهوسا والسواحلية والأردية، إضافة للغات أخرى كالفارسية والروسية والصينية (الإجمالي 11 لغة حاليا، فيما ستتاح أربع لغات خلال شهر، وسيصل الأمر إلى 27 لغة تبث بي بي سي من خلالها). ويركّز الموقع على تطوير أدوات الكتابة، واللغة العربية السليمة والمبادئ الأخلاقية للمهنة، والاستخدام الأمثل للمهارات التحريرية والتقنية، ولعل مما زاد في الإعجاب بالأكاديمية وموقعها أنهما يعدّان اللغة عنصرا أساسيا في الصحافة، إذ لا يمكن ضمان تطبيق القيم التحريرية دون أن تكون اللغة دقيقة والنبرة مناسبة والحقائق واضحة، وهو ما تغفل عنه أو تقصِّر بشأنه كثير من كليات ومعاهد الإعلام وكثير من وسائل الإعلام في عالمنا العربي.العمل الإعلامي كما يعرف الكثيرون موهبة قبل أن يكون دراسة علمية، وإنما تأتي الدراسة الأكاديمية والتدريبات لتصقل هذه الموهبة وتطور قدرات العاملين فيها، وكثير ممن يعملون في هذا المجال وفدوا إليه من بوابة الموهبة، رغم أن تخصصاتهم الجامعية كانت في جوانب أخرى، لذا فإن الكثيرين من المبتدئين أو الهواة في هذا المجال سيجدون في هذا الموقع / المعهد اليد التي ستأخذ بيدهم نحو الاحتراف وربما تكون سببا في عمل راق يتشوفون إليه في مؤسسات إعلامية محترمة مستقبلا.وفي ظلّ أمرين، الأول ازدياد انتشار وسائل التواصل الاجتماعي واتساع نطاق تأثيرها والآخر الثورات العربية وما أفرزته من نشاط إعلامي لدعم حراكها واقتراب الكثير من الناشئة والشباب من هذه الأجواء، كهواة ومتطوعين وناشطين على الأقل في البداية.. في ظل ذلك سيكون لمثل هذه الأكاديمية وموقعها المجانيّ دور مهم في تطوير أداء هذه الشريحة وتوفير الحد الأدنى أو المعقول من الترشيد المهني لعملهم لو رغبت في ذلك طبعا. وهنا لا بد من التذكير والتأكيد على أن النجاح والدور المؤثر المتوقع للمعهد، مرتبط بالمجانية والتعلم عن بعد الذي يناسب ظروف المتابعين، وقوة وضخامة المادة المقدمة (مئات المواد التدريبية والفيديوهات والأدلّة والوسائل الأخرى) التي أنشأها المعهد لتدريب صحفييه في الأساس.المواهب عموما ومنها المواهب الإعلامية تحتاج إلى اكتشاف وإلى رعاية منذ الصغر، ثم تحتاج إلى صقل وتطوير من خلال التدريب بعد ذلك لكي تبرز ويستفيد منها المجتمع، وإن لم تحظ بذلك فإن مصيرها الضمور والاضمحلال، وبالتالي خسارة المجتمع لعناصر شابّة متحمسة للإبداع والابتكار، ومن ثم المساهمة في النهضة والتنمية والتطوير.أكثر من ذلك فإن الاهتمام بالمواهب الإعلامية وتوفير محاضن الرعاية والتدريب لها ـ ومن ضمنه هذا المعهد ـ يكون سببا في توجه الشباب للتخصص الذي يمكن أن يبدع ويتألق فيه، وبالتالي صناعة إعلاميين مرموقين مستقبلا، ولعلنا نذكِّر هنا بأن كثيرين من أصحاب هذه المواهب قد خسرهم العمل الإعلامي بسبب تجاهل مواهبهم وغياب تعهدها بالرعاية، لينتهي بها المطاف في كليات علمية أخرى تتخرج منها لتمارس وظيفة اعتيادية تماما. ونحن إذ ننوه بأهمية أكاديمية بي بي سي لابد أن نشير إلى قلّة معاهد التدريب الإعلامي عموما، وتضاف إلى هذه الندرة تكلفة التدريب الكبيرة التي قد لا تتوفر للكثير من الموهوبين من أبناء الأسر ذات الدخل المحدود، كما أنه لابد أن نشير إلى ضعف الاهتمام بتنمية المواهب الإعلامية في الصغر، بشكل كبير وواضح، مقارنة بتنمية المواهب الأخرى في المجالات الفنية والعملية كالرسم والتصوير والموسيقى ومهارات الإنترنت والتصميم. وهنا لابد أن أشيد بتجربة متميزة للمركز الثقافي للطفولة بقطر قبل سنوات قليلة ـ نفذت لمرة واحدة فقط ـ وشاركتُ فيها ألا وهي ( برنامج إعلامي المستقبل)، وأحث المركز على استئنافها ـ بعد أن توقفت ـ نظرا لأهميتها الكبيرة. كما لابد من الإشادة أيضا بجهود موقع "قنا الطفل" التابع لوكالة الأنباء القطرية، وأنا من المتابعين لها منذ انطلاقتها، وبرنامج التربية الإعلامية التابع لمركز الدوحة لحرية الإعلام في دولة قطر، رغم أنها لاتزال محدودة وفي بداياتها.ولعليّ شاهد على أنّ هذه التجارب التي نحتاج لمزيد منها، كمّاً ونوعاً، كانت سببا في الكشف عن مواهب إعلامية فتيّة في مجال الإعلام، نتوقع لها مستقبلا مشرقا بإذن الله تعالى في قادم الأيام.