05 أكتوبر 2025
تسجيلها هو الزمن يدور دورته من جديد، ليحل رمضان ضيفاً كريماً بديارنا، نحتفظ له في ذاكرتنا منذ نعومة الأظفار بمكانة خاصة تليق بقدسيته، ونستحضر في أذهاننا أجواءه المعطَّرة بالبركات، بكل ما فيها من سكينة صافية، وألق إيماني جميل. ولحظات قدومه الميمون، حينما كانت تهفو قلوبنا لاستقباله بحفاوة بالغة. لأن بوفادته تَنزلُ عميم الرحمات، وانتشار فيوض الخيرات. هاهو يعود، ولكنني لا أجد في نفسي سوى الآلام المبرِّحة والهموم المُستحكِمة، التي أنتظر بفارغ الصبر أن أبثّها له، شكوى ونجوى، قبل مغيب شمس كل يوم أيامه. أو في دجى كل ليلة من لياليه، وكأن لسان حالي يقول قريباً من قول المتنبي: شهرٌ بأية حالٍ عدتَ يا شهر.. شكواي آلام أمة، ونجواي هموم شعوب، أرهقها الظلم، وأتعبها الاستبداد والفساد، وكلما همّت بالانعتاق من أسرها الطويل، وجدت من يريد أن يعيدها إلى نقطة البداية، محاولاً تصفيد معصميها من جديد. عذراً يا شهرنا الكريم، إذا خنق البكاء تحيتي لك، وخانتني عبارات الترحاب بك، لأن في القلب غصة ولوعة، فما زالت عشيرتي وربعي في بلاد الشام التي بارك الله بها وحولها مثل أكثر من عامين ونصف العام، في محنة وبلاء عظيمين، بعد تكالب عليهم الشرق والغرب، مع النظام الذي يمسك بمقدّرات دولتهم، منذ أكثر من أربعين عاماً، دون أن يروا بصيص ضوء في نهاية النفق. ويضاف إلى هذا الألم ألم آخر، بحجم المؤامرات على أرض الكنانة اليوم، التي يراد أن تعود إلى أحضان الظلم والفتنة، من الشباك، فيما لم يطل فرحها بالتخلص من ليل الطغيان بعد أن خرجت من بوابته المظلمة قبل ما يزيد على عامين. كان رمضان يرتبط بالبيوت والبيئات الشامية العريقة بكل جلسات الأنس التي تجمع الأرحام والأقارب والجيران، وبتراتيل المسحرين والمؤذنين ذوي الأصوات الشجية، وبالأكلات الشهية، والأسمار الراقية، وبالمسلسلات القيمية الهادفة التي شدت العرب، عبر شاشات الفضائيات في السنوات الأخيرة، أما اليوم فالجراح نازفة، والآهات متصاعدة، والآلام متزايدة، فما من بيتٍ إلا وفيه غُصّة في الحلق، ومدمع في العين، بسبب دماء الشهداء والجرحى، وأنات المعتقلين، وبعاد النازحين واللاجئين عن ديارهم وأحبابهم، ودمار البيوت وخراب البنى التحتية، وأجواء القلق والخوف والذعر، وأخبار المجازر وروائح الموت التي تزكم الأنوف في كل مكان. ما كان يخطر ببالي أن شعباً كريماً، يُمكِن أن يتعرض لمثل هذه المحنة القاسية، كتلك التي يعيشها هذه الأيام، ليصبح كالأيتام على مأدبة اللئام، يتثاقل الناس من لاجئيه الذين اضطرتهم الظروف المرعبة لترك ربوع أوطانهم الجميلة، ولا يخفون ضيقهم وتبرمهم من تزايد أعدادهم، ويوصدون أبواب المطارات في وجوه طائراتهم وكأنهم ليسوا عربا أو مسلمين، أو تجمعهم به آصرة الأخوة والنسب والدين. بعد أن كان هذا الشعب ولعقود طويلة يفتح قلبه ودوره ملاذاً وسكناً لكل المضطرين من العرب والمسلمين وشعوب العالم الأخرى، الذين تضيق أراضيهم بهم، أو تضطرهم الظروف إلى تركها مرغمين. ولأن شهر رمضان هو شهر الصبر والمصابرة، شهر الجهاد والتضحية، شهر التكافل والتراحم، شعر العبادة والتبتل وفعل الخيرات، فإنه لابد لي من تسجيل رسائل قصيرة بهذه المناسبة لعلها، آملا أن يكون فيها النفع والفائدة، وتترك أثرها فيمن تبلغه إن شاء الله. الأولى: لأهلي وشعبي في سوريا.. ثقوا بالله وبوعده لعباده المؤمنين بالفرج، والنصر على من ظلمهم، علّقوا قلوبكم بالله، وصِلُوها بحبله المتين وإرادته الغالبة، وأمَّلوا فيه خيرا كثيرا، ولا تهنوا ولا تحزنوا ولا تيأسوا، فبعد عتمة الليل البهيم يبزغ الفجر الصادق، وبعد الضيق والشدة واستحكام الحلقات يطلّ الفرج برأسه، ليفرِّحَ قلوب المؤمنين الصابرين.. "ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين". الثانية: لشعوبنا العربية والإسلامية، إن عدد النازحين واللاجئين من أبناء الشعب السوري، وصل إلى ما يزيد على سبعة ملايين على الأقل، كثير منهم تقطّعت بهم السبل، وانعدمت لديهم أسباب الرزق، وصار ما يقيم أودهم، من مأكل ومشرب وملبس ومأوى، أمرا عزيز المال، فأروا الله من أنفسكم خيراً، في شهر التعاطف والمرحمة، ومدّوا لهم يد العون والمساعدة، عبر الحملات والجمعيات والهيئات الخيرية والإنسانية، وتذكّروا نعم الله عليكم الذي أطعمكم من جوع وآمنكم من خوف، بينما هم سلبوا نعمة الأمن والأمان، وباتوا يشكون من الجوع والفاقة والحرمان. وتذكروا حديث رسولكم الكريم صلى الله عليه وسلم: "ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به". الثالثة: لشعوبنا العربية والإسلامية أيضا ولأحرار العالم..لا تنسوا واجب النصرة، للشعب السوري المظلوم، وأساليب ووسائل النصرة كثيرة متنوعة، بالكلمة واللسان والتظاهر، ومقاطعة بضائع الظالمين، ومؤاخاة المحرومين..اجعلوا من هذا الشهر موسما لنصرة إخوانكم، اجعلوهم أحياء في ضمائركم ووجدانكم، وخففوا من وطأة ما يتعرضون له صباح مساء، حتى يشعر أهل سوريا أنهم ليسوا وحدهم في ميدان المواجهة مع الظالمين.. "والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه".